ضاد

في رحاب العم سام (2).. للعدالة «هنا» وجوه كثيرة

لسنا هنا لعقد مقارنات واهية بين بلادنا ودول العالم المتقدم، كما أننا لا نفتش عن الأخطاء والنقائص في تلك المجتمعات من أجل إبرازها والتهليل الوقتي، سعادة بفشل الآخرين وإفراغ شحنة من “الشوفينية” تنسينا الفشل الذي محمد علاء- اكتب صحتغرق فيه أممنا حتى ذقونها، وكأن البديل الوحيد لدينا عن اللحاق بركب التقدم، هو تأخر الآخرين للوقوف بجوارنا!

وكما درسنا في جميع العلوم الإنسانية بأن الطريق لحل أي مشكلة أو علاج أي مرض، هو الاعتراف بالمشكلة أولاً، والتيقن من أننا بحاجة إلى التعلم والفهم والإصلاح، وأخذ العِبرة ممن سبقونا في الطريق.

فمن المؤكد أنه لا يوجد مجتمع كامل ولكل أمة مميزاتها وعيوبها، وكما نجحنا بامتياز طوال سنوات في النهل من عيوب الأمم وتجميعها برمّتها في مكان واحد، آن الأوان كي نتعلّم ونأخذ الإيجابيات “حكومة وشعبًا” فقد صرنا على شفا الضياع والإصلاح حتمي، ورفاهية الانتظار والصبر باتت غير متاحة الآن.

قالوا إن “العدل أساس الملك” وأعتقد أنها أبلغ ما يمكن أن يقال عن تقدّم الأمم، وهو ما نتأكد منه كلما توغلنا في التخلف أكثر وازداد إصرار بعضنا على التأخر وغرق جزء غير قليل في مستنقع اليأس والإحباط واللامبالاة وربما التعب والإجهاد، ولكن ما العدالة؟ وكيف تُعرف؟ وكيف تطبّق؟ ولماذا ينجح البعض في تطبيقها فيبلغ عنان السماء، ويفشل الآخرون فيسقطون إلى أسفل سافلين؟!

عندما وصلت إلى حيث أنا، كان مفهوم العدالة مشوشا لدي، ومعي عذري بالتأكيد، فأنا لم أعشها يومًا ولم أعرفها إلا من خلال الكتب، والواقع يختلف حتمًا عن النظريات، هنا أدركت أن العدالة تبدأ من الشارع وليس من ساحات المحاكم، فهمت أن القاضي الذي يذهب إلى عمله صباحًا فيجد في “الرول” 120 قضية على الأقل، مطالب أن يحكم فيها بالعدل بين قوانين متهرئة وتحقيقات فاسدة ومحاضر “مطبخة” ومحامين درسوا القانون لحفظ ثغراته، ومناخ غير آدمي، لا يمكن أن تقام على أكتافه أمّة فتية قوية متساوية الأضلاع.

أدركت منذ اللحظة الأولى أن العدالة تكمن أولاً في العقول، فالعدالة هنا شيء مثل الماء والهواء لا يفكر فيها الناس أو ينشغلون بها، لكنهم يتنفّسونها، وكأنها من طبائع الأمور، ولا يمكن التفكير في العيش دونها، وليس كما نظنها نحن خيالا علميًا!

المعنى الحقيقي للعدالة هو الآدمية. أن يعامل الإنسان كإنسان دون النظر إلى شكله أو جنسه أو عرقه أو دينه أو نوعه، أن الجميع سواسية فعلا في الحقوق والواجبات، أن لكل شخص دورا في المنظومة ينفذه بكل متطلباته، لأن هذا هو واجبه، وطالما ارتضى لنفسه أن يحمل مسؤولية ما، فلا يستحق الشكر لتأديتها.

فالموظف الحكومي يعرف أن مهمته هي خدمة الناس، فلا يظن أنه يتفضل عليهم بخدمتهم، ولا يعتقد في نفسه أنه مالك مصائر البشر، وله أن يتحكم فيها كيفما شاء، والمدير في أي مكان يعلم أن دوره تيسير مهام العمل، فلا يوجد مدير في أي مكان باب مكتبه مغلق، هنا تجد العدالة في أوج تحققها من خلال التعامل مع المعاقين وكبار السن، يكفي أن تعلم أنه لا يوجد مكان واحد بالولايات المتحدة من أقصاها إلى أقصاها يتجاهلهم في مكوناته الأساسية، فلا يوجد رصيف يخلو من مكان صعود وهبوط الكراسي المتحركة، ولا يوجد باب بلا زر يمكّنهم من فتحه، ولا يوجد مكان تسوق لا توجد به سيارات كهربائية تسهل لكبار السن التبضع دون احتياج لمعاونة أو شعور بأنهم أقل من غيرهم، ولا يوجد أتوبيس غير مجهز لاستقبال عربات المعاقين بدءًا من السلم الذي ينزل بطريقة معينة لصعود العربات، وصولاً إلى السائق الملزم بترك عجلة القيادة واقتياده إلى المكان المخصص، وربط الكرسي الخاص به وسط احترام  من الجميع “دون شفقة”.

أروي لكم قصتين أعتقد أنهما كافيتان لإيضاح الصورة والمعنى الحقيقي للعدالة الذي يؤدي لصحة الأمم وارتقائها.

الأول لم أحضره ولكن رواه لي أحد المصريين المقيمين هنا منذ سنوات: رجل كان يتولى ما يشبه منصب المحافظ لدينا في المدينة التي أوجد بها، أوقف ذات يوم لقيادته سيارته الخاصة متناولا كمية غير قانونية من الخمور، وتم منعه من القيادة.

وحسبما علمت، فإن هذا الرجل كان قد حقق نجاحات هائلة خلال فترة توليه منصبه، إلا أن ذلك لم يشفع له، وتوجه باعتذار رسمي لسكان المدينة، وطالبهم بالتصويت على رغبتهم في بقائه أم رحيله، وأبقاه التصويت في منصبه لإكمال مدته الانتخابية.

لهذا الموقف عدة دلائل، أهمها على الإطلاق -من وجهة نظري- هو نفوذ القانون الذي أعطى للشرطي الحق في إيقاف سيارة المحافظ، دون النظر لمنصبه، ومعاقبته عندما وجده خارجًا على القانون، والأهم هو انصياع السيد المسؤول واحترامه للقانون لإدراكه أنه سيفٌ على رقاب الجميع، وإن لم يطبقه هو، فكيف يطالب المواطنين بالالتزام به؟

الموقف الثاني كان معي شخصيًا، عندما ذهبنا بطفلتنا الصغيرة إلى المستشفى للكشف عليها، وبالتأكيد لا داعي للحديث عن النظام والنظافة والبراعة المهنية، فهي أمور بديهية هنا.

أبرز ما في تلك الحالة هو الطبيبة المعالجة ومساعدوها، الذين لم يدخروا جهدًا لأكثر من نصف ساعة في فحص الطفلة والتأكد من كل ما يخصها، دون أن يلتفت أحد إلى اسم والدها أو غطاء رأس أمها، فهم يتعاملون مع إنسان وفقط، مهما كان اسمه أو دينه أو جنسه.

ليس هذا فحسب، فقد استمروا في متابعة الحالة والبحث معنا عن أقرب صيدلية يمكننا صرف الدواء منها، والوصول لها عبر الخرائط داخل العيادة، بل رافقنا أحد الأطباء إلى خارج المستشفى وأوصلنا إلى الأتوبيس الذي علينا ركوبه للصيدلية لدى علمهم أننا جدد ولا نعرف الطرق جيدًا!

ملحوظة: الخدمة الصحية بالكامل مجانية والتأمين الصحي “إجباري”.

عندما قارنت تلك الزيارة بما كنت أعانيه في مصر مع  أطباء تفتح عياداتهم بعد الحادية عشرة مساءً، ويجلس الأطفال المرضى وأولياؤهم العائدون من يوم عمل مميت بالساعات في انتظار لحظة الفرج والسماح لهم بالدخول، علمًا بأن الكشف لا يقل عن 150 جنيهًا في أفضل الحالات، انتابني حزن وغيرة واحترام في الوقت ذاته.

فالطبيبة سالفة الذكر لم تشعر وهي تقدم كل تلك الخدمات -بابتسامة مشرقة ورغبة حقيقية في المساعدة- أنها تتفضل علينا في شيء، ولكنها علمت وأدركت وقبل ذلك تعلّمت أن وظيفتها هي خدمة الناس ومساعدتهم في التداوي، وأنها ليست أفضل من مرضاها في شيء، فكما أنها تساعدهم في مجالها، فهي أيضًا في حاجة إليهم في مجالات أخرى يتقنونها ولا تعرفها، لقد نشأت بعقلية التعاون والتكافل وأن الكل في حاجة إلى الكل، ولا يمكن السير إلى الأمام إلا بالجميع.

ويتبقى هنا سؤال مهم: هل ما تحدثنا عنه له علاقة بالإمكانيات المادية؟

هل العقل والاحترام والالتزام مرتبط بأن تلك الدولة غنية وهذه فقيرة؟

تلك أشياء لا تشترى!

وللحديث بقية، إن كان في العمر بقية.

اقرأ أيضًا:

في رحاب العم سام (1)

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى