المنطقة الحرة

الفارس النبيل.. محمد محمد الشهاوي

عبير زكي - اكتب صح

أبي، على الرغم من أنني لم ألتقه إلا مرات معدودة فقد ترك في كل مرة التقيته فيها أثرا بالغا وجميلا، عرفته كبيرا ويصعد إلى المنصة شيخا يخشى غدر “مرض السكرى” ويجف حلقه ولسانه، فيرطبهما بقليل من الماء ويستمر، لكنه ظل يعنى بمخارج ألفاظه قدر استطاعته وظل يحلق بنا في سماء الشعر، حاملا كل الحضور إلى عوالم أنيقة وبديعة، منسقة ومنمقة ومنتقاة بعناية فائقة، وجزلة يحتشد فيها المعنى بسطوة بالغة وحدة لا تنفر منها، حدة السطوع والوضوح والعتب، وصدق الانفعال، وغاية الطلب في الإنسانية الحب.

كلماته اللاذعة محببة المذاق، تصبغ الأشياء بألوانها الحقيقية، مضفية عليها مزيدا من الجلاء فتزدهي وتزيد الحق وضوحا.

إن بساط الأحلام الذي كان يبسطه لنا كلما استلم مكبر الصوت، كان وسيعا ومتينا وأنيقا للحد الذي استطاع معه أن يحمل عليه الجموع -بثقافاتهم المختلفة وأذواقهم المتباينة– ويرتفع ويحلق ثم ينعطف يمينا ويسارا، وسط دهشة الجموع وصيحاتهم وثناءاتهم، التي تصف حلاوة المشاهد والكلمات “إن من البيان لسحرا”.. كيف استطاع أن يجمع كل تلك الحشود في وجدان واحد؟ يصرخ فيصرخون، ويضحك فيضحكون، ويتأوه فيتأوهون، ويغني للحب فيحبون، أي سحر هو ذاك الذي كان ينثره بيننا شعره المنيع وأداؤه المبهر، فنلتحم معه ونصهر في بوتقة واحده، ونسيل حيث يريد لنا أن نسيل.. ونبتسم ونعود وقد فعل بنا الشعر الأفاعيل، وأسكرتنا الرؤى وبلغنا الرضا.

وبعيدا عن منصة الإلقاء، ولأني لم أسكن قط مدينته الصغيرة، وكانت زياراته للقاهرة قليلة آنذاك، فقد كان لي حظ يسير معه حيث استمع إليّ مرتين اثنتين فقط.

أولاهما كانت منذ 10 سنين تقريبا في الأوبرا بعد إحدى الأمسيات، ألقيت عليه قصيدتين “دمى الدهر” و”الرحيل” فشكر وشجع وبشر بمستقبل شعري مشرف، ودعاني لصالون “المهندس أحمد ماضي” في كفر الشيخ، غير أنني لم أستطع الحضور، وظل يذكرني حتى التقيته في المرة الثانية في معرض الكتاب بعدها بنحو عامين تقريبا، ولم أتخيل أنه ما زال يحفظ اسمي ويذكر اسم قصيدتي التي أعجبته، وانطلق يسأل عن أخبار الشعر معي ومشاريعي المقبلة، وكان ديواني الثاني قد صدر بالفعل، فناولته الديوانين الأول والثاني.. هاتفته مرات قليلة أغلبها كنت أطمئن فيها على صحته.

وما أجمل أن تكون في أول الطريق وتجد أبا عطوفا ومحبا، يمسك بيدك ويقول لك “سر إنك على الطريق” لا شك أن لهذا مفعول السحر وأنه يعني لك الكثير الكثير.

وكان الشهاوي يطل علينا في أمسيات المعرض كالقمر، بعد أن استوحشناه يزورنا، فنحب أن ننهل منه ونرتوي من شعره.. لكننا كنا فقط نلتقيه مرة أو مرتين كل عام وظللنا على هذه الحال، نلتقيه فيسعدنا بوجهه البشوش وابتسامته الجميلة، نلتقيه فيغمرنا ترحابه العطر وعطاؤه الكبير، ويشجينا صوته المرح المحب للحياة، وإلقاؤه الذي يأخذ بتلابيب القلوب…

أيها الساحر الجميل…

  كــــــل عــــــــــام وأنــت بــخــــــيـر

ومن قصيدته “زرقاء اليمامة وأهل الندامة”، تخيرت بعض الأبيات لتكون شاهدة على العصر، كتبها الشاعر الكبير في محنة العراق، وأعيدت كتابتها في محنة سورية:

قد هـدك الهم يا زرقــــــاء والحزن

والـقـوم قــومـك لا عــقـل ولا أذن

لك المعاذيــــــر إما قـد هـتـفـت بمن

للغي والخزي –يا زرقاء- قد ركنوا

يا أيها العـــــرب الأطــــلال والدمن

ماذا يقول –غدا– عما جرى الزمن

يا أيـهـا الإخوة الأعــــداء يا بــددا

يزهو شـــقـاقــا وتذكي جـمره الفتن

و”دمشق” أنـدلس أخرى تضيعها

أيديكمو والغـبا والعــار والوســن

إن الـفـرنـجـة قــوم لا أمــــان لـهــم

فكيف خـانـتـكـم الأفـهـــام والفـطـن

هم الذئـــاب.. وما ذئـب لكم بـأخ

قالت بهذا لنـا الأحداث والمحـن

خابت نفوس هي الأوهــام والظـنن

شاهت وجوه هي الخذلان والوهـن

وآب بالخزي من خال الذئـاب غدت

-وهي الذئاب– على الحملان تؤتمن

عبير زكي

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى