«المُتوحِّد في بهو ولايته الشعرية».. محمد الشهاوي يفوح من 77 زهرة
“حينما عرَّى زماني عورتَهْ.. كرَّم اللهُ _تعالى الله_ وجْهي”.. هكذا تكلَّم مُحمد، واصفًا ذاته الإنسانية في أبسط صورها، ربما كان من الأجدر أن أقول: “ذاته الطفولية”، فما عهدناه إلا طفلا في هيئة معلم كبير وشاعر أكبر.. ورغم مشقة الكتابة عن محمد الشهاوي، ورغم مكوثي مدة ليست بالقليلة أمام الورق حائرًا بين إنسانيَّته التي تصعب على التمحيص والتلخيص في سطور، إلا أنني ارتقيت مرتقًى صعبًا، بأن أدعي أننا كنا أحق الناس بصحبته، وهو يكبرنا بأكثر من خمسين عامًا، لكن شوارع القاهرة تشهد على أقدام شقت، وهي تلهث في طرقاتها غناءً وحبًّا في صحبته، وقاطرات المترو تذكر كم كان شدوُنا معًا “يطغى على ضجة العجلات”، أيام وليالٍ قضيناها معًا طيلة 7 سنوات منذ أول لقاء بيننا، حين تعرفتُ عليه من خلال “رزمة” ورق مصور قديم أهدانيها صديق، تحوي بين طياتها عدة دواوين شعرية “تهت فيها وضاع دليلي” وإلى الآن لم أصل إلى مكمني الآمن، عشت مع غناء الشهاوي، سافرت مع المسافر في الطوفان، وشممت عطر زهرة اللوتس التي ترفض أن تهاجر، واستيقظت صباحا مع إشراقات التوحُّد، وذبت في غمار التجَلِّي فما وجدت في “الجبَّة غير الحلاج”.
استمع الشهاوي أول ما استمع، إلى ذاتي ثم إلى شعري مُنصتًا كعادته، قال لي: اقرأ تجدْ نفسك، واعلم أن الشعر إن تعطِهِ كُلَّك يعطِكَ بعضَهُ، وإن تعطِهِ بعَضكَ لم يُعطِكَ شيئًا، واكتشف طريقك بنفسِك يا ولدي، ولا تصاحب في الحياة إلا الصديق الذي كلما اشتقت إليه، وجدته تحت ناظيك، صديقُك هو الكتاب.. لا أذكر كمَّ الليالي التي امتلأت بالليالي، عشناها معا صاحبين على طريق مبهم وعجيب، أوله حب وآخره عتق من الجمود والتحامُ بالجمال واللذة والجلال اللامتناهي، كنا ننام ولا يكاد يمر الوقت، إلا وأنتبه على صوت الأوراق تتقلب على جمر شغفه وشهوته للمعرفة، كان يقرأ في الظلام كي لا يوقظنا، كان يخشى من النوم على ساعة تمر من العمر من دون أن يقرأ شيئا، أو يعرف جديدا أو يتذوق جمالا، إنه الضمير المعرفيُّ بكامل هيئته وإشراقه وبهائه، يصحو من جديد في ظل عتمة زمانية نعيش تحت قتامتها، فلا يطعَم من الزاد إلا قليله، ولا يظمأ إلى الشراب إلا ما يوقظ ريقه، إنها رهبانية العارف الناسك المتوَحّد التي ما ابتدعها، إنما كُتبت عليه وكتَبها على نفسه ملاذَا وملجأ ومستقرًّا أخيرا.
بدأت حكايتي مع الشهاوي درامية مُكتظة بالشجن، حين ذهبت ممتلئا بالحماس لحضور “سبعينيَّته” في اتحاد كتاب طنطا، وطُلب مني أقدم شهادة على شعر الشهاوي، فوجدتي ضئيلا بقدر ما تحتاجه الشهادة للمطلع الخبير على منجزه الضخم، فآثرت أن أقرأ نصًّا من أشعاره التي كانت تصحبني وأصحبها في أي ارتحال، فوقعت عيني ونفذ قدري بأن أقرأ “الليل ومرايا الدموع” مهداة إلى “أيمن” طفل الشهاوي الذي اختطفته أظفار الردى، لم أكن أعلم، كنتُ جريئا بما يليق بمتهور، قرأت فانفطرت عينَا الشهاوي بالدموع، وهو جالس على منصة تكريمه، وذرف قلبي دمعة لم تزل سيَّالةً حتى اللحظة، رغم مرور سنوات، قبلت يدَه وصرنا صاحبين روحَا في روح ودمَا في دمٍ.
قلتُ في نفسي إن قدري يشبه قدره، وذائقتي أقرب إلى ذائقته، إن بيننا أشياء مشتركة توحي بأمر ما غامض غير مرئيٍّ، ولأنني أكره الازدحام وأهرب من الكلَفة، أحببت فتاةً بسيطة كالماء، شاء القدر أن يكون اسمها لاسم زوجة الشهاوي وحبيبته “الراحلة” فاطمة، وحين انصهرت في ذوات المعشوق، غنيّت شعر الشهاوي: “قال المريد وللمريد غرائبٌ.. أودت براحته وأورت نارهْ”، فحملت فاطمة في بطنها مريدًا، جاء للدنيا من صلب شاعر أحب الشهاوي، وسُمي في شهادة ميلاده من شعر الشهاوي.
ويستمر ذلك الأمر الغامض في تجلِّيه ضوءًا فوق ضوء، حين كتبت قصيدتي الأخيرة “خيانة” عن تجربة شعرية أرهقت روحي، وقرأتها على مسمع الشهاوي، في جلسة حضرها الأحباب والأصدقاء، فصعقني وحمَّلي أوزارًا من الهموم والدهشة والحيرة، حين قال لي: إنني كان لا بد لي أن أكتب “أنا” هذه القصيدة.. شكرا محمد الشهاوي على وجودك في الحياة.
محمد هشام