محمد الشهاوي.. الرجل الاستثناء
ورد في الأثر أن أعذبَ الشِعْر أكذبه، لكن شيخ الشعراء محمد الشهاوي دليلٌ حيٌ على كذب هذا الأثر أو هو -أي الشهاوي- استثناء له. فالشعر عند الشهاوي صدقًا حياتيًا تاما تعرفه من سيرته الحياتية، وتستشعره في كل سطر شعري تقرأه له. تجربة حياتية صوفية في كل قصيدة تطالعها من إبداعه.
ولد الشهاوي في قلب الريف المصري بكفر الشيخ، فحفظ القرءان في كُتّاب القرية، ثم التحق بالمعهد الديني بدسوق، وهي نشأةٌ ستطبع إنتاج الشهاوي الشعري فيما بعد طابعا خاصا في لغته وأساليبه وصوره الشعرية وثقافته التراثية ورؤيته الصوفية.
عمرٌ كاملٌ قضاه ينهل من معين الشعر ويعطيه نفسه وتجربته التي أثمرت عدةً من الدواوين بدأها بـ(ثورة الشعر) ولم ينهها متعه الله بالصحة والعافية بـ(مكابدات المغنى والوتر) مرورا بـ(قلت للشعر) و(مسافر في الطوفان) و(زهرة اللوتس ترفض أن تهاجر).
ثم (إشراقات التوحد) ذلك الديوان الذي عرف كاتب هذه السطور الشهاوي من خلاله، عندما أعادت مكتبة الأسرة طبعه عام 2003 بعد أن صدر في عام 2000, وهو الديوان الذي فاز بجائزة مؤسسة أندلسية والذي يحوي بداخله قصيدته الفذة (المرأة الاستثناء) التي فاز عنها بجائزة البابطين للإبداع الشعري.
وحسنًا فعلت هيئة قصور الثقافة حين أصدرت أعمال الشهاوي الكاملة عام 2013، فالشهاوي قامة وقيمة شعرية كبيرة في الشعرية العربية المعاصرة، لم تحظ بالاهتمام النقدي الذي تستحقه، اللهم باستثناءات قليلة مثل دراسة (هاني علي سعيد) المعنونة: شعر محمد محمد الشهاوي (دراسة أسلوبية)
********
إنَّه العُمرُ إلا قليلا قدْ مَضَى
وأنا لم أزلْ
فوقَ جَمْرِ الغَضَى
أَتَقَرَّى إليكِ السبيلا
لكِ ألا تَجُودي
ولي أنْ أظل الذي يَطْلبُ المستحيلا
كان الشهاوي وما زال باحثا عن لؤلؤة المستحيل، طالبا لها في شعره وقصائده التي يحتل بحر الكامل النصيب الأوفر منها، خصوصا في شكلها العمودي، متبوعا بالمتدارك الذي هو عمود إنتاجه في شعر التفعيلة، يليه المتقارب مثلما يرصد الباحث هاني علي سعيد في بحثه.
والقاريء الجيد لشعر الشهاوي يجده يحتفي كثيرا بالقافية كتاج للإيقاع الشعري، وإن لم يستسلم لنمط القافية الموحدة -على طول قصائده العمودية- بل تراه يراوح بين المقطوعات والموشحات، كما أنه في قصائده التفعيلية قد حافظ على روح القافية سواء أكانت متوالية أو متقاطعة ومتشابكة.
يقول الشهاوي في قصيدته (المرأة الاستثناء):
لينهمر الشعر بالأغنيات الجديدة بين يديها
طويلًا..
طويلا
ألا…
وليؤسس (على قدرها)
لغةً…
وعروضًا جديدينِ
يستحدثان مقاييس أخرى…
وذائقةً…
وعقولا.
هي امرأةٌ تشبه الشمسَ..
إلا أفولا.
ويقول في مقطع آخر:
أجل…
إنه موقف الشوقِ…
والتوقِ..
والسُهدِ..
والوجدِ..
والشدو..
والشجوِ,
هي لغة الشهاوي الخاصة، وقوافيه المميزة، ومعجمه الذي يميزه القارئ ولا تخطئه عينه حيثما حل وارتحل في قصائده، وهي لغة صوفية النبع تغوص بك في عالمه الشعري الخاص، تأسرُكُ تشبيهاته البليغة واستعاراته التجسيدية والتشخصية وكناياته التي تدفعك لأعماق سحيقة لا تخرج منها بسهولة، فهي غزيرة المعاني، ما يدفعك كقارئ لمعاودة قراءة نصوصه الشعرية مرات ومرات، علك تسبر غورها وتظفر منها بجديد مع كل قراءة جديدة. فقصائد الشهاوي لا تعطيك نفسها من القراءة الأولى، وهذا سر من أسرار جمالها.
يقول في قصيدته (أندلسيَّة):
في فِجَاج السِّر أو في العلنِ
رَعَويٌّ في المَواجِيد نَشَا
أيُّها الوجد الذي يملؤني
منذ أن كنتُ صبيا دَهَشَا
لي حبيبٌ حُبُّهُ يأخُذُني
أبدًا منِّي إلى حيثُ يَشَا
والمنطق الصوفي في شعر الشهاوي ضاربٌ فيه حتى النخاع، ولا يكاد القارئ يخطئ من قصائده جرعتها الصوفية سواء في ألفاظها أو في معانيها وتراكيبها اللغوية والأسلوبية، وربما يرجع تأثر الشهاوي بالتصوف لبعيدٍ، إذ نشأ في ريف كفر الشيخ وتتلمذ في المعاهد الدينية وحفظ القرآن كما أسلفنا.
والريف المصري القديم عندما وُلِد الشهاوي عام 1940 كان لا يزال على عهده القريب متأثرا بالمدارس الصوفية، التي نشأت في مصر في القرنين الثامن والتاسع عشر، وهي المدارس التي تركت أثرها في وجدان المصريين، خصوصا من أهل الريف، قبل أن تزحف الوهابية عليه بُعَيد منتصف القرن العشرين بقليل، لكن هذا حديث آخر.
المهم لدينا هنا أن نشأة الشهاوي طبعت شعره طبعة صوفية عميقة، وعميقة هنا ليست من نوافل القول، إذ لا نجد شاعرنا يستسهل بالأخذ من معجم الصوفية، كما يفعل بعض المتشاعرين الذين يجدون في اللغة الصوفية فرصة سانحة لملء دواوينهم، بل هو على العكس من ذلك يعيش تجربته الشعرية الصوفية بعمق دلالي لأنها -أي الصوفية- حقله المعرفي وخريطته الإدراكية التي يعرفها معرفة الخبير المتمرس.
يقول الشهاوي في قصيدته (الخروجُ إلى المُطْلَق):
اُخْرُجْ من ذاتِكَ تَظْهرْ
وابعُدْ عن نفسِك تَكْبُرْ
وتَخَطَّى الحدَّ الفاصلَ
ما بين العَرَضِ وبين الجوهرْ
فإذا ما اجْتَزتَ الهُوَّةْ
واتَّحَدَتْ فيكَ القُوَّةْ
واتَّسَقَ المَخْبَرُ والمَظْهَرْ
فهنالك أرْضُكَ تُثْمِرْ
وسماؤكَ ليلًا أبدا تُقْمِرْ
وهنالك تأتيكَ جميعُ الأسماءْ
وهنالك يَصْفو النَبْعُ ويَحْلو الماءْ
وتُدَاعِبُ كَفُّ القُدْرَةِ وَجْهَ الصَحَراءْ
وهنالك لا تُغْلَبُ أو تُقْهَرْ
نحن إذن في حضرة قامة شعرية سامقة لا تُغْلَبُ أو تُقْهَر حين تأتيها ملائكة الشِعْر، فتسيل نبعًا عذبًا رقراقا متدفقًا لا يصمت إلا وقد أتم أغراضه ومشروعه الشعري المتفرد. قامة شعرية يحق لإنتاجها أن يقف محاذيا تراث الشعر الصوفي العظيم لابن الفارض والنَّفَّري والحلاج وغيرهم.
(يا شمس يا قلم الحقِّ(
كى يُعرفَ الطيبونَ من الخُبثاءْ..
ولا تَكْتُمى خَبَرًا إنَّهم
– قبلَ ذلك-
كانوا من الظاهرينَ
وكانوا قليلاً من الليل ما يهجعونَ
عن الشهواتِ
وها جاء أمْرُ السماءْ،
وزلزلتِ الأرضُ زِلْزالَها
وأخرجتِ الأرضُ أثْقالَها
وقال الذين بَغَوْا :
مالَها؟
فالمدى ثَوْرَةٌ،
والجموعُ تلوِّحُ،
و(النَّفرِىُّ) يردّدُ
فى ساحةِ النَّصْرِ
أحْلَى المَواقِفْ.
حاتم عبد الفتاح