شمعاتٌ٧٧.. كهالة قمر
حينما هبطت هذا الوسط الأدبي، كنت أمتلك جناحين من الحب الخالص للكتابة. ولم أختر توقيت الريح المزاجية التي تُهبطني كيفما أشاء! أو العنيفة التي تسقطني فوق بقاع المحافل بسرعة شديدة!
لكنّ سحرًا حدث! ورأيت فيما يرى الطائر، منطادا جميلا، قد نُفخ من أجلي، يُهبطني على ما يبدو بوصاية، ويُسلمني للبقاع الجميلة بعناية.
حينما بدأتُ رحلتي من السماء -فالكتابة تحليق- إلى الأرض، وفيها الملتقى. كنت الأوفر حظًّا، أشعلتُ في قصائدي الكيروسين، فانتشرتُ بسرعته.
بدأت بحضور نادي الأدب بمدينتي كفر الشيخ، ومن ثمّ صالون القرضا للمبدع المهندس الإنسان أحمد ماضي.
وكنت ذات ثقة، ووثبة. عنيدة لا يكسرها نقد سالب أو خذلان يجرجرها.
التقيتُ كبارًا، خارج المدينة، وسألوني جميعهم، بينما يسمعون عن اسم محاقظتي التي أنتمي إليها: انتي من كفر الشيخ بلد الشهاوي؟؟؟؟
وكثيرا ما كنت أطأطئ بالإجابة “نعم”، وأنا لا أعرفه.
أصررت أن يكون لي -بذلك الأب الذي أذيع صيته وصداه بروحي ولم ألقه- لقاء!
فكان موعدي به يوما من أيام صالون القرضا قبل أعوام!
ومن ثمّ فوجئت! بالهيكل الصغير القصير، الذي له أن ينفرد بركن من أركان المجلس لا يسمعه أحد ولا يضايق أحدًا! فعجبت كل العجب من تلك الأصداء التي دوّت برسم صورة لا تنتمي للشخصية المجسّدة، وأن تلك العظمة الكامنة في القدْر، ليس من الضرورة أن توافق الصورة!
التقيتُ الشهاويّ. وكنت جيلان زيدان، التي صعدتْ المنصة ملتهمة بقصيدة، تأثره واحتفاءه، فأمسك بيدها وقال: جيلان اسم بكرة هتسمعوه في كل الدنيا وهيكون له شأن.. شاعرة مهمة.. افتكروا الكلام ده!
ما زلتُ لا أعرف أي مغناطيس يقبض عليه الشهاوي، يجذب إليه العالمين!
وبسببي أهملت في التوصل إلى المعرفة، بيد أني أعلم أن رجلا عظيما يجلس أمامي، شعرا وإنسانا!
تواضعه الجم، طريقته في إبداء الرأي. آخر من يتكلم، إلا إن طُلب منه ذلك، ودوما ما كان يُقدَّم على الجميع.
الجميع أبناءه، لغته الخاطفة. استعدادك لسماعه في شعر أو تقديم أو حديث.
هذا كله جعل من الشهاوي لي منزلة الأب المعلم، والمدير الحكيم.
سنواته التي ثنّتْ تجاعيده، حمولته التي أثقلتْ كاهله، خبرته الطويلة التي يسوقها خلفه؛ فينهل منها كل ماضٍ معه ورفيق.
بدأت التعرف إلى الشهاوي، والذهاب لمحفل يجمعني به. أهداني مجموعته الشعرية الكاملة ، فأي تقديرٍ هذا!
في مواقفَ عدّة، علّمني الشهاوي، ما لم أكن لأجده يوما ما في كتاب، ففي صالون بريادة الشاعرة المبدعة علا بركات في البرلس وبدعوتها الجميلة التي قرأتُ فيها نصوصا مقالية أمام الشهاوي، سمحت لي الفرصة أن يردّني الشهاوي في لفظة “البِدائيّ” ليصحّح لي بأنها “البُدائيّ” على وزن “الخُرافي”!
وفي ذات الجلسة التي نبّهني فيها بأن كلمة نفس لا تُجمع إلا بأنفس، عندما قلتُ: نفوسنا!
يومها وربّ الناس والغنى، كأني قد ورثت إرث سليمان مالًا وجاهًا وحكمة!
وهو الشهاوي أيضًا الذي يحضر حفلات الأطفال، وينمي فيهم روح الشعر بجماله! فقد التقيت به ذات ليلة حافلة، بقصر أنور المعداوي، بينما كنت في دور الخالة المدرّبة لطفلي محمد وائل على الإلقاء المسرحي! ورأيت الشهاوي بروحه النقية، يُهدي محبته ونصائحه النفيسة للأطفال، ويضفي على الليلة بطيبه وطيّبه! ويوقع شهادات التقدير، ويخضع بأخذ الصور الفوتوغرافية بلا كلل أو ملل، وصحح لي أيضا نطق كلمة “لوثة” بضم الواو ومدّها مدًّا طبيعيّا، وليس بالإسكان.
أحبك أيها الشهاوي العجوز، ولا تنسى أني وثّقتُ هرمك في وجهك، بصورة رسمتها لك على الجدار الملاصق للمنصة في فيلا المهندس الروائي الشاعر أحمد ماضي بالقرضا :)) وأهديتكَ لجواره كغصني شجرة على حبات الإسمنت.
فلا داعٍ من إخفاء هويتك الآن التي تُفصح عن تاريخ ميلادك القديم؛ فأنت الشاب الذي ما زلت تستخرج منا هذا المعنى، ورونق الحياة!
شاب بالقصيدة التي لا تهرم ولا تموت، شاب بحضنك الذي جمع كل أؤلئك فيه وما زال يسع الكثير!
شابّ بأبويتك التي شعرتُها، بتلبيتك حضور حفل زفافي، ولن أنسى ذلك ما دمت حية، حاضرًا حتى بكتبك في حفل زفاف، هذا يجعلني أبتسم كلما شاهدتك في تسجيل الفيديو تبدو كقمر وحيدٍ للأرض!
باركتَ زواجي، وما زلت تبارك ولدي قبل أن يأتي، حتى أتى!
فهادن الوقت، والميعاد، أيها السبعينيّ الأجمل.. لتمنحنا صورًا أخرى تحملنا فيها، تجمعنا على هذا الأبيض الذي ما لقيته كما لقيته فيك.
جيلان زيدان