يسألونك عن الشهاوي!
ليس سهلًا أن يكتب الشاعر عن الشاعر، وبالتأكيد ليس سهلًا أن يكتب الشاعر عن آبائه الشعريين! لا يكفي مقالٌ واحدٌ مقتضَبٌ يُكتَب خلالَ ساعاتٍ ليُقرأ خلالَ دقائق، لهذا المقام العالي الذي لا توفّي حقَّه المجلدات، لذلك اخترتُ الطريقَ السهل، ونفضتُ يدَيّ من هذه المسؤولية الكبيرة، وقررتُ أن أكتبَها شهادةَ عابثٍ: مجازية، قصيرة، ومجروحة.. على حدث كبير، غير عاديٍّ، ولا يَحتملُ التجريح!
قبل رُبع قرن كتب الشاعر الكبير محمد الشهاوي (1940)، سيرته الذاتية.. ربما لم يكن جاهزًا ساعتَها لمواصلة الحياة، وربما لا، لكن المؤكد بالنسبة لي أنّ لقاءً واحدًا، ولو عابرًا به وهو يدخل عامه السابع والسبعين سيملؤك بالحياة، التقيتُه مرّةً، كانت الذكرى الثالثة والثلاثين لرحيل “صلاح عبد الصبور”، أول الأمر كان بسيطًا كشاعرٍ كبيرٍ بقامةٍ قصيرةٍ، وناحلًا كعاشقٍ متيّمٍ و(للعاشقين نحولٌ يعرفونَ به!) ومنهكًا من كثرة انتصاراته على الموتِ كرجلٍ في عَقده الثامن!، ثم وعلى لسان إيهاب البشبيشي كان عبد الصبور يقول: “يُنبئني شتاء هذا العام/ أنني أموتُ وحدي/ ذاتَ شتاءٍ مثلَه،/ ذات شتاءْ!”، وكان الشهاوي يقوم ويقعد، ويضع يدَه اليُمنى على قلبه الشيخ، ثم على جبهته السّمراء، ثمّ على شَعرِه الأبيض الغجريّ، ثم يقبضُها، ثم يبسطُها، ثم يعزفُ بها على بيانو الهواء، ثمّ يطلقُها عاليةً مترددةً كالقصيدة: ” ينبئني شتاء هذا العام،/ أن ما ظننته شفاىَ كان سُمِّي،/ وأن هذا الشِعرَ حينَ هزَّني أسقطني،/ ولستُ أدري منذُ كمْ من السنين قد جُرحتْ،/ لكنني من يومها ينزف رأسي!”.
الشهاوي لا يَعتبر الكتابة فعلًا يوميًّا، (يظهر جليًّا في السنوات الطويلة التي تفصل بين إصداراته المحدودة نسبةً إلى حياته الممتدّة مع الشعر)، ويحتفي بممارسة الحياة اليومية بين أهله على عكس الشعراء، يقول صاحب “الموت والميلاد” (1970) إن الحياة لا تُطاق بعيدًا عن مسقط رأسه “عين الحياة”، هكذا هو كما اتفقَ؛ قرويٌّ كسائرِ أهلها المستضعفين، وشاعرُهم العربيُّ الفذّ في آنٍ!، فكلما كان محليًّا، كان قوميًّا في احتفائه بالقضايا والشعارات الكبرى في مواضع كثيرة من سيرته الحافلة بالخيبة العربية: “وغريبان نحنُ.. غريبان،/ والأرضُ: مَأكولُ عَصْفِ../ ومَندوفُ عِهْنٍ تطيَره الرِّيحُ/ أَنَّى ترُوحْ/ وغريبانِ نحنُ../ غريبانِ يحترفانِ الْمُنَى وابتكارَ الجموحْ/ وغريبانِ نحنُ../ غريبانِ لا يملكانِ سِوى/ حجرٍ عبقرىٍّ أبىٍّ/ يُجابهُ فى شمَمٍ كلَّ بَطشٍ،/ وكلاليبَ جيشِ الدفاع،/ وسطوةَ بأسِ (الأباتشى)/ وغريبانِ نحنُ../ غريبانِ يا دَمَنَا العربىَّ الذى لم يَعُدْ/ غيرَ ماءٍ متاحٍ لكلِّ الطغاةْ!”… وكلما كان عالميًّا، كان ذاتيًّا بحيث يقرأُ نفسَهُ فيكتبُ العالم: “قارئًا نَفْسِىَ:/ أَنْسَلُّ بأغوارىَ لَيْلًا كُلَّ لَيْلَةْ،/ وأُجيلُ الطَّرْفَ فيها وأجولُ/ (إنّ ما يَحْمِلُهُ الظَّاهِرُ مِنَّا/ ليس إلاَّ الصَّدَفَا،/ والذى يَخْفَى هو الدُّرُّ تُوَارِيهِ السُّدُولُ)../ هكذا قالَ لِىَ الطَّيْفُ الذى عِشْتُ أُنَاجِى طَيْفَهُ،/ وقَضَيْتُ الْعُمْرَ أرجو عَطْفَهُ../ هكذا قالَ،/ وما زال يقولُ!”.
لا يُعدّ “المسافر في الطوفان” واحدًا من أبناء جيله!، فنظريًّا ينتمي الشهاوي إلى جيل الستينيات، وموضوعيًّا (وبالنظر إلى مجمل تجربته الكبيرة) تنتمي قصيدته إلى خمسين عامًا بعد ذلك التاريخ البعيد الذي أصدر فيه ديوانه الأول “ثورة الشعر” (1962)، انظُرْ عنوان الديوان وتأمل المعركة التي سبقت الثورة وأثرَها في شِعره: في أواخر الخمسينيات كان قد طلعَ قرنُ قصيدة التفعيلة في مصر، وعادةً فليس بقرارٍ يُصبحُ الكاتبُ رائدًا، إنما هي اللحظة التاريخية ثمّ الاختيار الثوريّ: القصيدة الحديثة في مواجهة خمسة عشر قرنًا من العامود الشعري، لا بدّ من ثورةٍ إذن؛ ثورة في الشعر لا على الشعر!، وبينما أنصار العامود كانوا جماعاتٍ ومدارسَ وصروحًا، كانَ دعاةُ الثورة أفرادًا! أيّ معركةٍ مع هذا البناء الضخم الضارب ألف وخمسمائة عامًا في بطن الأرض!، لكنَّ سؤال الشهاوي وصَحْبِهِ ظلَّ صارخًا وملتهبًا كالشمس: ولماذا يُصبُّ هذا المزيج اللغوي الإيقاعي التشكيلي كلَّ مرة في هذا القالب الواحد، ومن يفرضُ هذا الشكل بالذات، ولماذا؟!، أوليسَ الشعرُ دائريًّا ومستطيلًا ومربعًا أيضًا؟!.
نعم كان الرهانُ مغامرةً بشرفِ القصيدةِ!، لكنّ الثورةَ انتصرت ببساطة منطقها، في الحقيقة لم تكن ثورةً واحدةً، فتبعها ما تبعها، وقَدّمت القصيدة الحديثة أجيالًا من الشعر والشعراء، وتوالت هزائمها الكبرى على انتصاراتها الكبرى، فطارت وحطّتْ وطارت، وأفنتْ وأبقتْ، وفتحت جراحًا، وخاضت معاركَ لا حصرَ لها، وبقي العاموديون حتى اللحظة (إلا فيما ندرَ!) واقفين على الأطلال، ومشيِّعين في الجنازات، انظر الحضور في مسرحية “أمير الشعراء” أكبر حدث شعري عربي على الإطلاق طيلة العَقد الماضي، ثم مؤخرًا على مائدة “كتارا”، وغدًا أو بعدَ غدٍ في مسارح جديدةٍ، وعلى موائد أخرى!.. أخيرًا، وبالمناسبة.. صحيح أن الشهاوي قد حاز عددًا كبيرًا من الجوائز، لكنّها كانت كلّها بمثابة الزبد الذي يذهب جفاءً، لتمكث القصيدة في الأرض!؛ يعرف كل منصف أن حصولُه عام 1996م على جائزة البابطين للإبداع الشعري لأفضل قصيدة عن نصِّه المُقدَّس “المرأة الاستثناء” لم يكُنْ جائزةً للقصيدة بقدر ما كان جائزةً للجائزة: “أجل.. إنه موقف الشـوقِ والتـوقِ،/ والسُـهدِ والوجـدِ،/ والشـدوِ والشـجوِ،/ فلتشهدي يا جميعَ المواقيتِ../ أن المغني ما زال في حضرة الشوْفِ/ يتلو كتاب صباباتِهِ،/ وفِدى مَنْ أحبَّ يموتُ قتيلا!/ ويا سيّدي الوجدَ،/ إنَّ لنا موعدًا عقدَتْه العيونُ،/ ووثقه الصمت../ والصمتُ أصدقُ قِيلَا!”.
أيمن ثابت