عزّة
عندما توفي والدي، منذ نحو تسع سنوات، حزنتْ ابنة أختي ذات الثلاثة عشر ربيعًا عليه بضراوة، لدرجة أنها كانت تبكي في الفصل، كلما تذكّرته، وذات مرّة سألتها مُدرّستها:
– بتعيّطي على إيه يا عزة؟
– أصل جدّو مات.
– كان عنده كام سنة؟
– ٧١.
– هيء هيء، يعني ما دوّبش بدلة الفرح يا بت؟ هيء هيء!
كفّت عزة عن البكاء، ونظرت إليها مذهولة، وهي لا تصدق ما سمعتْ. البنت الصغيرة تتلقى درسًا عمليًا في التشوّه الإنساني، وتفتح عينيها لأوّل مرة على وضاعة بعض البشر.
“وما علاقة المعزّة والحب بالعمر؟” سألتني بعد أن حكت لي، وهي تواصل بكاءها، ثم قالت بتحدٍ:
“الحب من حق الكبار والصغار، الجميلين والقبيحين، الذين رحلوا والذين يحاولون أن يفعلوا!”
بعد ثلاثة شهور.. ماتت عزة!
عزّة كانت مريضة بالسكري، الطفلة الباسمة المرحة التي تحفظ كتاب الله، وتعلّمه لزملائها، أخطأ طبيب حمار في علاجها، فدخلتْ في غيبوبة، استمرّت يومين، قبل أن تلحق بجدّها!
وعندما أخبروا أستاذتها العظيمة، لم تضحك هذه المرّة، ولم تُلقِ تعليقا سخيفًا عن لبس الفرح، فعزّة لم يكن مخططا لها ارتداؤه في الدنيا، كما يبدو.
قبل رحيلها بفترة وجيزة. حلمتْ عزة حلمًا عجيبًا، لم يفهمه أحدنا إلا فيما بعد، رغم مباشرته!
رأتْ نفسها نائمة على فراش جدّها، في بيتنا القديم، وهو يدخل إليها من الشبّاك، ويقول لها “تعالي معي”. هكذا بمنتهى البساطة والوضوح، ودون أي تورية، وعزّة التي أحبّته، وتعلّقت به أكثر من باقي الأحفاد، لم يهن عليها أن تكسر بخاطره، أو ترفض طلبه الأخير، فذهبت معه!
في الليلة الأخيرة.
اتصلتُ بأختي وهي مع عزّة في الطوارئ.
لم أجد كلامًا.
فقط أبقيت الخط مفتوحًا بيننا، لا تمرّ عبره سوى الأنفاس الواهنة ودقات القلوب المترقبة، وأنا لا أدري ما تخبئه اللحظات المقبلة. وإن كنت أتوقّع، في النهاية، تحدّثتْ أختي بصوت قوي أدهشني:
– ما تقلقش عزّة بخير، وإحنا راضيين تماما بقضاء ربنا.
أختي هذه، القوية المؤمنة، أمي الثانية، التي لا أشعر بالأمان إلا في حضرتها، قبل هذه اللحظة بثلاثة أشهر فقط، تُوفّي أبي بين ذراعيها في المستشفى، كان في غيبوبة هو الآخر، وأسلم الروح وأنفاسها آخر ما بلغ جوفه!
اختارت عزّة الصباح لتغادر العالم.
اتصلتْ بي أختي. كنت أرتدي ملابسي لأذهب إليها:
– عزة، البقاء لله.
جريتُ بأقصى سرعة على الحمّام. لأهرب من نظرات أمي التي شعر قلبها بالمصيبة. أغلقتُ الباب على نفسي، وانهرت في البكاء.
لماذا يا رب!
هاجمتني الصور من كل اتجاه، عندما كنت أعاكسها وأجري وراءها، فتتوقف بعد فترة لاهثة وتقول:
– “خلاص بقى إنت الكبير”!
وعندما كنت “أبرشط” على مصروفها وأستلفه منها، قائلا “أنتِ ومالكِ لخالك، مش الأئمة اللي بتدرسي لهم بيقولوا كده؟” فتضحك وتقول لي “ده مش فقه الإمام أحمد ده فقه أم أحمد”، فأتركه لها متظاهرا بالغضب وأنا أقول: “يا هبلة كنت هستثمرهم لك، يلا ملكيش في الطيب نصيب”.
عزة التي نويت أن ألتحق بمعهد القراءات في شربين بسبب حماسها للالتحاق به مع دراستها، وقررتُ حفظَ القرآن لأتفوّق عليها.
عزة الطيبة الخلوق التي كانت تحمل الكل فوق رأسها، ولا تشكو أبدا أو تتذمر أو تبدي اعتراضها على شيء.
عزة التي كانت في حالة انسجام وألفة مع الكون كله، لم أختبرها أبدا.. ماتت.
دخلتُ عليها المستشفى، وهي مسجّاة على التروللي، والملاءة فوق وجهها. لم تُرد أختي أن أفعل، لكني فعلتْ. كشفتُ الملاءة وحدّقت فيها.
إنها عزّة فعلا.
قبّلت جبينها، وبكيت!
…………………..
اقرأ أيضا: