أمل دنقل وفلسطين.. نجدّد العهد ولا نصالح
لست من الذين يحبّون الشّعر كثيرًا، ولو أنّي حاولت كتابته، ولا أذكر أنّي قرأت لغير أبي القاسم الشّابي ونزار قبّاني أو شعراء الجاهليّة، تماشيا مع المقرّرات الدراسيّة في سنوات الثّانوي.
كنت ميّالة أكثر للأدب، للقصص والحكايات وتتابع الأحداث وترقّب آخر ما سيحلّ بأبطال العمل. كان العالم الحِكائيّ جذّابا ومغريا بالنّسبة لي، فقد فتحت عيوني على روايات نجيب محفوظ العابقة بريح القاهرة وشوارعها، أعمال المنفلوطي الدّراميّة المليئة بالعبر وكتابات إحسان عبد القدّوس اللّطيفة المسلّية وكنت أغبط المصريين أنّ لديهم كتّابا كهؤلاء وآخرين.
لم أعرف شعراء مصريّين حتّى بدايات العشرين من عمري، وأوّلهم كان فؤاد نجم عبر أغاني الشيخ إمام، ثمّ الأبنودي وصلاح عبد الصّبور عن طريق الأغاني أيضا. بعد أن خفت إعجابي بنزار قبّاني السّوريّ، أُعجبت أيّما إعجاب ببدر شاكر السّيّاب العراقيّ، ليسرق محمود درويش الضّوء من الجميع، ولا أظنّ أنّ مهتمّا بالشعر عموما والقضيّة الفلسطينيّة لم يقع في غرام شعر درويش.
قد يبدو غريبا أنّي أورِد أسماء شعراء عرب مُرفقة بالجنسيّات لكنّ جوهر علاقتي بالشّاعر العظيم الذي أتناوله بالحديث في هذه المادّة، كان خلطا سببه شعره. لم أقرأ كثيرا لأمل دنقل لكنّي بلا شكّ أحفظ أبياته الشّهيرة:
“لا تصالحْ !
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى
لا تصالح على الدّم .. حتى بدم !
لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟”
عرفت “الجنوبيّ” عن طريق دائرتي الفلسطينيّة، فلا تكاد صفحة فلسطينيّة على أيّ من شبكات التواصل تخلو من نصّه هذا.
لا تكاد مسيرة أو تظاهرة في علاقة بفلسطين تخلو من عبارة “لا تصالح”. إذا ارتفع للفلسطينيين شهيد قرأتُ في صفحاتهم “لا تصالح على الدّم حتّى بدم” وإذا ما أخذهم الحنين للوطن المسلوب تجد صور مدن فلسطين مرفقة بقوله “أترى؟ هي أشياء لا تشترى”، وحين يغضبون من مواقف السلطة الفلسطينيّة ولقاءات أبو مازن مع ممثلين عن الكيان الصّهيوني وصوره وهو يصافحهم، تقرأ عندهم “كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدّم”. كلّ هذا جعلني أعتقد أنّ أمل فلسطينيّ ولم أبحث لأتثبّت، فقد كان بغضبه وانتصاره للحقّ ورفضه للصّلح مع العدوّ، فلسطينيّا قحّا.
لم يتوقّف الأمر عند المنشورات في مواقع التّواصل أو الشّعارات في الوقفات والتّظاهرات، فأمل دنقل حاضر في الأعمال الفنّيّة الفلسطينيّة.
السيّدة “صفاء سرور” فلسطينيّة تشتغل بالتّطريز الفلسطينيّ في سعي للحفاظ على الإرث الحرفيّ الذي يميّز فلسطين مع مجموعة من نساء المخيّمات في الأردن. طرّزت مع شابّة فلسطينيّة نصّ قصيدة “لا تصالح” حرفا حرفا وبطريقة فنّيّة يتجلّى فيها إيمان بكلّ كلمة في النّصّ.
كيف لا وهي التي كتبها دنقل منفعلا بسبب زيارة السّادات التطبيعيّة إلى القدس. لقد كانت رسالته المحمّلة بموقفه الرّافض وإيمانه الرّاسخ بالحق الفلسطينيّ. والفلسطينيّون لا ينسون من يحمل همّ قضيّتهم ويرفع لواء نصرتهم أيّا كانت جنسيّته وانتماؤه، فما بالك بمصريّ جنوبيّ ثائر كأمل دنقل.
قصيد أمل دنقل “لا تصالح” حاضرة أيضا في رسومات خطّاط فلسطينيّ شابّ. “قصيّ أبو عامر” يخطّ ويرسم كلّ ما له علاقة بفلسطين شعرا ورموزا وغناء. أساس أعماله ترسيخ فكرة المقاومة والانتصار للتّحرر.
فليس غريبا أن تتحوّل “لا” أمل دنقل ليدين تحملان البنادق مع العلم الفلسطينيّ في دعوة لرفض فكرة “المصالحة” والانتصار للنّضال حتّى التّحرير، أو أن ترافق رسما فيه حنظلة “ناجي العلي” رافعا سيفا بيد وقلما بالأخرى “فليس سوى أن تريد.. أنت فارس هذا الزّمان وسواك المسوخ”.
بحثت في علاقة أمل دنقل بفلسطين لأجد أنّ هذا الرّابط قديم. في كتابه أمل دنقل شاعر على خطوط النّار، ينقل الباحث البحرينيّ أحمد الدّوسري عن الشّاعر الفلسطينيّ وليد خازندار أنّ الأخير حين زاره في المستشفى أيّام مرضه –الذي كان سبب وفاته- أخبره “أمل” أنّ “أبو عمّار، ياسر عرفات” قد أرسل له تحاياه ونقودا باسم الثّورة الفلسطينيّة عن طريق “فاطمة البرنا” لكنّه لم يستطع أن يقبلها. فالدّولة المصريّة قد تولّت نفقات علاجه وهو لم يعد محتاجا للنقود.
يقول خازندار: “بدا كما لو أنّ شيئا يمزّقه، غالب نفسه كي لا يقول، غير أنّه لم يستطع: أنتم الفلسطينيّون.. لماذا تتصرّفون كالآلهة؟ يموت منكم العشرات يوميّا، والحصار مضروب عليكم، لا ماء ولا كهرباء ولا طعام، ثمّ تتذكّرون شاعرا مريضا في آخر الدّنيا فترسلون إليه النقود!”.
حضور “أمل” الدّائم في ارتباط بفلسطين رسّخ فكرة كونه فلسطينيّا عندي، حتّى إنّي فكّرت أنّ “أمل” كاسم رجل يتناسب مع تصوّري للفلسطينيّين أكثر من غيرهم من العرب. وحين عرفت أنّه مصريّ غبطت أهل مصر عليه، لكنّه بلا ريب شاعر فلسطين وكلّ العرب.. كلّ العرب الثّائرين. فأمل دنقل ثائر وشاعر ثورة، وفلسطين قلب الثّوار وفي شهر يعبق بريح الثّورة العربيّة، لا يسعنا إلّا أن نجدّد العهد مع الاثنين ولا نصالح.
نهى سعداوي
فلسطين
اقرأ أيضًا:
اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية
أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)
أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)
ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟
كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟
ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟
استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟
بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟
4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية
صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر