المنطقة الحرة

كيف يجعلك أمل تألف الموت؟

دينا ماهر

يقولون إن «فلان ابن موت» أي إن الدنيا أسوأ من أن يعيش بها من هم في رقته. أولاد الموت يتركون الدنيا مبكرًا، يتركون الدنيا مخلفين وراءهم عذوبة وجمالا.

توفي الشاعر الكبير أمل دنقل في أربعينيات عمره، ولك أن تتخيل إذا كان قد عاش أكثر، ماذا كان سيكتب أيضًا؟ هل هناك أروع مما كتب أمل دنقل؟ أم أن الحياة كانت تعلم أنه لن يعيش طويلًا، فجعلت إبداعاته تتدفق حتى وهو على سرير المرض؟

كان أمل دنقل ابن موت، ولم يرحل حتى كتب عن الموت برقة وسلاسة عجيبة. لم أعرف بديوان “أوراق الغرفة رقم ثمانية “لأمل دنقل، سوى في عامي الجامعي الأخير.

حدّثني عنه أحد أساتذتي، حين أخبرته عن تجاربي مع موت الكثيرين من أفراد عائلتي، قرأت الديوان مراتٍ ومراتٍ، في كل مرة أقترب من الموت أو يقترب من أحبتي، أسمعه يتردد بقوة. في قراءتي الأولى للديوان تمنيت أن أكون قد قرأته منذ الطفولة، فلقد وجدت نفسي في الثلاث أوراق الأولى من الديوان.. ضد من والزهور والسرير، بالطبع أفتقد شاعرية أمل دنقل لكن لي ثلاث حوادث في طفولتي تربطني بتلك الأوراق.

الورقة الأولى ضد من (اللون الأبيض)

أنا أكره اللون الأبيض، وليس الأمر نابعًا من رغبة في الغموض أو التظاهر بالقسوة، قضيت طفولتي حول أبي في المستشفيات، كل ما حولي أبيض كأيام أمل الأخيرة: الحوائط، السرير، الملايات، زي الممرضات. كان الموت يمثل لي اللون الأبيض، فأبي قد خرج من كل ذلك البياض لكفنِ أبيض ليدفن أسفل قالب رخامي أبيض. دخولي لأي مشفى يجعل قصيدة “ضد من؟” تدور في رأسي بلا توقف، تدور وأجد نفسي أقرأها بصوتٍ عال. أقف أمام قبر أبي، وأسأل نفسي: ترى هل شعر بما شعر به أمل لكن لم يستطع ترجمته؟ جعلتني “ضد من” أشعر بالألفة مع الموت. فحقًا (ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟).

في قصيدته كان أمل يرى لون الحداد تميمة ضد الموت، هكذا صارت قصيدته تميمتي ضد الخوف من الموت، رغم الحزن والألم تشعرني الكلمات بالهدوء والسكينة، ربما ذلك المعنى الخفي الذي تحمله أن الموت يحدث بسهولة وينساب ككلمات أمل دنقل، ربما حقيقة أن الموت يأتي من أكثر الألوان طهرًا وبراءة، الأبيض، وأن المخيف ليس أن يتوقف قلبك بل أن يستمر.

 كانت صديقتي تجري عملية جراحية، وكنت ألازمها طوال أيام المستشفى، وأقرأ لها القصيدة كل يوم، فتضحك وتسألني هل يقرأ أحدهم لمريض ديوان كتبه شاعر وهو على فراش المرض؟ لم تفهم أنه ليس فألا سيئا، ربما كانت القصيدة مسكنا لآلام الخوف من فقدها، ربما لم تدري الصديقة أن أمل جعلني آلف الموت!

كل هذا البياض يذكرني بالكفن

فلماذا إذا مت

يأتي المعزون متشحين

بشارات لون الحداد؟

هل لأن السواد

هو لون النجاة من الموت

لون التميمة ضد الزمن

ضد من؟

ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟

الورقة الثانية الزهور

أخاف الورد بسبب حادثة قديمة، حيث سقطت في حوضٍ للورد وأنا صغيرة فتقطع فستاني وجسدي من الشوك، حتى اليوم رائحة الورد تبكيني وتذكرني بهذه الحادثة، في نفس يوم الحادث، ذهبت لزيارة قريبة لنا مريضة، لنجدها قد توفيت، ظل في ذهني صورة حامل ورد كبير بجانب سريرها، يحمل دعوة لها الشفاء العاجل، صار الورد يسبب لي ذعرًا ولا يحمل في ذهني سوى تمنيات الشفاء العاجل التي لا تحدث أبدًا.

 في قصيدته الزهور، يفكر أمل في الزهور التي ماتت من أجل الشفاء العاجل، وهو شفاء لم يحدث له، كان أمل بالرقة ليفكر في مصير الوردة التي تموت برضا وهي تحمل اسم قاتلها، ولكني أرى أن تقديم الزهور ليس للمريض، ولكن قربانًا للمرض حتى يترك من نحب، نقدم للمرض وردًا وشوكولاتة، وهو يرد بالألم والدموع واليأس، ونستمر في المساومة، لذلك يا أمل أنا أكره الزهور، أكره إجباري على تقديم قربان، أكره أن أقتل من أجل الحياة، أكره أن أنتظر الحياة من الموت.

كل باقة

بين إغماءة وإفاقة

تتنفس مثلي – بالكاد- ثانية.. ثانية

وعلى صدرها حملت راضية

اسم قاتلها في بطاقة

الورقة الثالثة السرير

المرض له غربة، فجسدك ليس جسدك وحدك، فهناك أجهزة تسمع قلبك، وعقاقير تجعلك تنام، وأخرى تنشط خلاياك، سرير المستشفى ليس سريرك، لا يحنو عليك، فأنت بالنسبة له كأي مريضٍ آخر. فأنت مجرد رقم كما قال أملً، المرض يحيد التاريخ والحاضر والمستقبل ولا يعي سوى أرقام التحاليل.

في ورقة السرير يمثل لنا أمل علاقته بسرير المرض، الذي لا يفرّق بينه وبين مريضٍ آخر، ولا يجيب سوى بالأنين، مررت بتجربة مرضِ طويل، خذلني جسدي ولم يقو على حملي وتحملني السرير شهورًا،لكنه كان سريري، لم أشعر بقسوة السرير الذي قضى أمل أيامه الأخيرة فوقه.

فالأسرّة لا تستريح لجسد دون آخر

فالأسرّة دائمة

والذين ينامون سرعان ما ينزلون

نحو نهر الحياة يسبحون

أو يغوصوا بنهر السكون

 ألفتُ الموت بسبب قصائد أحد أبنائه، وعرفت متى سيأتي، سيأتي حين أشعر ببرودة سرير لا أعرفه وأرى بياضًا ينتهي بالكفن وزهورًا تحمل أمنيات شفاء لا تتحقق.

شكرًا أمل دنقل.

دينا ماهر

اقرأ أيضًا:

اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية

أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)

أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)

51 كلمة قرآنية تُفهم خطأ

ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟

كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟

ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟

تأنيث أسماء الدول وتذكيرها

فيديو| كيف تصبح محرر ديسك 3

استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟

بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟

4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية

صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى