هل تلد الرجال؟
عزيزي -أحبُّ أن أسميك هكذا حتى أستطيع أن أبوح لك بسر- فعلى عكس ما يُشاع، أصدّق أن البوح للأعزّاء، للأعزّاء فقط.
إذًا، أنا لا أتذكر.
هكذا في المطلق، نعم… أعاني مشكلة جادة في التعاطي مع الذكريات، بالتأكيد لا أتذكر متى بدأتْ، ولا حتى في أي مرحلة لاحظتها، لكنها حادثة.
لهذا، لا تأخذ ما أحكيه هنا باعتباره صادقًا تمامًا، لا تعاتبني إن أغفلت، وإن كنت عزيزي حقا فهذا سيتكفل بالكثير.
تقريبا، قبل عشرين سنة -نعم، عشرون كاملة أو تزيد- قابلتُ أمل.
في الحقيقة لم أقابله، لم أقصد اللقاء، إبراهيم قابلني به.. كتاب في القطع الصغير، له ورق أصفر، مطبوع بخط جميل، وغلاف مجلّد أسود، مكتوب عليه “أمل دنقل.. الأعمال الكاملة”.
كانت طبعة ودودًا، غير تلك الباردة بغلافها الأبيض، المليئة بالأخطاء، التي أهدتني إياها صديقة قديمة، وفقدتها، ولا قبيحة كهذه التي لدي الآن.. ربما لأن إبراهيم ودود، ويحب أمل بصدق.
قرأ لي -لست متأكدا إن كنت أتذكر الآن أو أتمنى- عن سبارتاكوس والجباه المحنية، عن الودعاء الطيبين، عن الزمن العنّين، واليمامة ومسيرة الأشجار.
وقرأتُ
«ما زالتْ شرفتها وردية
ما زال اللبلاب الأخضر فيه وعود فيروزية
…
كانت
كنا
لكنا
عدنا جيرانا لا أكثر
وشذا عفويا لا يُذكر
عدنا نهتز بلا شرفة
للقاء في غيم الصدفة»
وقرأنا معا عن أسماء وأبيها الذي صعد، والجنوبي الذي يخشى البحر ويحب الحقيقة، وعن الأسِرّةِ والفُرُشِ البيضاء، والصندل الفضي… والموت.
وسمعتُ صوت أمل، حتى أني رأيته.
بعد سنين عدّة، اجتمعتُ بآخرين يعرفون أن أمل دنقل رجل وليس امرأة، كانوا جميعا يرددون الوصايا في سورة “لا تصالح”، لم أطمئن لإعجابهم بالصراخ والغضب، كنتُ قد أحببت “الكمان” و”الخيول”، وتطنّ كلمات الزرقاء في رأسي، ولم أغادر أبدا “الغرفة 8”.
عزيزي -طبعا أستدعيك من أجل سر آخر- هل تعلم أني لم أتجاوز أبدًا قول اليمامة:
«أبي
لا مزيد
أريد أبي عند بوابة القصر فوق حصان الحقيقة»
بالطبع أيضا لا أتذكر عدد المرات التي قرأت فيها ديوان أمل، ولا عدد الطبعات المختلفة التي قابلتها لأعماله الكاملة، لكني أعرف جيدا عدم قدرتي على تجاوز هذه السطور الثلاثة.
أتعجّب كثيرا من أولئك الذين يردّدون كثيرا “أكُلُّ الرؤوس سواء؟” ولا يستشعرون المرارة في احتفالات النصر.. الحمد كله لخلل الذاكرة.
مئات الساعات من القراءة، ومثلها من المناقشات –أيضا- مع إبراهيم.. نعم، مشينا آلاف الأمتار نتحدث عن عبد الناصر والسادات وكُليب والمهلل، وإرث الثأر وخيانة الحرب، عن ضياع جليلة، وعن الودعاء الطيبين الذين قتلوا سبرتاكوس طمعا في الأرض، عن الزرقاء والبصيرة.. حتى عن “فاعل فاعل” التي يوقّعُ بها أمل الخطو والنَّفَسَ، فيوقف الزمن أمام الحقيقة/الغاية/المعنى/التحقق… أمام أشياء لا تشترى.
عزيزي -أعرف أن هذا استدعاء ثالث سريع، وربما مقلق- أكره أولئك الذين تبهرهم الصورة في الشعر، ولا يستوقفهم السؤال فيه… أولئك الذين لا يأرقون بجمال مدبب.
لهذا، أحببتُ الرجل الذي قابلني بـ”ابن نوح”، وعلمني عن “لؤلؤة المستحيل”*
عزيزي -هذا ليس استدعاء، بعد هذه المسافة من الأرق، نحن متجاوران، وربما نتصاحب- آلاف الصفحات التي قرأتها عن تعريفات الأدب في الأزمان المتعاقبة، ولدى الذائقة المختلفة، وحتى لدى أصحاب المصالح المتباينة، عن جوهر النوع، وسمات الجنس، وملامح التطور، لم تكفل لي -حتى الآن- راحة أستشعرها ناحية تعريف كذلك الذي أنتجه “ابن جني” حين عرّف اللغة، تعريفا واضحا، سهلة صياغته، للأدب عامة، والشعر خاصة.
لكني أعرف جيدا أن أمل لم يكن عرّافا، ولم يأته وحي، أو يرى غيبا، أمل شاعر.
نعم، أمل دنقل شاعر لم يُوح إليه، بل قرأ وعرف، تعلّم وتألّم، استشرف ولم يتكهن، وفوق هذا كله، استطاع القول، امتلك الكلمة، وأرّقه السؤال المناسب.
هل تعرف يا إبراهيم، ما زلتُ أصدق أن “الشاعر” هو من يختار أن يسهم في الحضارة والحياة شعرا، هو ليس أبا، ولا زوجا، ولا حتى فارسا، هو شاعر… تماما كما النبي أمل.
يا صاحبي، هذا يناير الذي غالب عطب الذاكرة، وهؤلاء ودعاء طيبون، وأولئك كلهم بسوس، وهناك عهد آت، يلزمه كثير من الخيل والطير والجنوبيين الذين يحبون الحقيقة ولا يخشون شيئا.. وكثير جدا من الأغنيات التي تحمل أصواتنا نحن.. غنّ يا صاحبي، رجاء -يا شاعر- افعل، فالرجال لا يلدون.
الناقد مصطفى رزق
*أستاذي الدكتور سيد البحراوي.
اقرأ أيضًا:
اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية
أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)
أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)
ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟
كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟
ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟
استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟
بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟
4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية
صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر