العشق فقرًا والفقر عشقًا
“الفقير أصدق العشّاق، لأنّه لا يوجد ما يقدّمه من الإغراءات.. سوى قلبـه!”
أتذكر مقولة “جبران” تلك كلما قرأت أو سمعت أو شاهدت قصة حب.. الفقر أحد أبطالها، فدائمًا ما أشعر أن الفقير أولى بالحب.. كما أن الحب أيضًا أولى بالفقير! فبالفقر يصبح الحب مجردًا -وما أكثر الأشياء التي يحتاج الحب إلى أن يتجرد منها- أو كما يقول جبران: “الفقر يظهر شرف النفس.. والغنى يبين لؤمها”.
ومن قصص الحب التي كان الفقر أحد أبطالها.. تلك التي جمعت بين الشاعر الكبير أمل دنقل، والكاتبة عبلة الرويني.. والتي خلّدت تلك القصة بين ثنايا كتابها الرائع.. “الجنوبي”.
..
كان أمل دنقل يقيم في القاهرة وحيدًا بعيدًا عن أهله في الصعيد، فقيرًا بوهيميًا يعيش حياة الصعلكة.. ولكنك لا تستطيع أن تحدد إن كان هذا الفقر اختياريًا أم إجباريًا، فقد تشعر أنه اختياري لأن أمل لم يبذل مجهودًا يذكر لتحسين حالته المادية.. ذلك أن امتلاكه للمال من عدمه لم يكن يساوي عنده الكثير، وتارة أخرى تشعر أن فقره كان إجباريًا، لما لا.. وبديله قد يكون تقديم أمل بعض التنازلات –وهو العنيد الصارم- كأن يتخلى عن أمل المتمرد صاحب الآراء المعارضة لسلطة السبعينات، ويصبح من مثقفي السلطة، ويتقلد أعلى المناصب في الصحف أو في وزارة الثقافة، أو أن يسافر خارج مصر ليعمل في إحدى الصحف تاركًا وطنه.. وهو الباحث عن الاستقرار والأمان بعدما ابتعد عن وطنه الأول.. الصعيد.
هذا عن أمل..
وعلى النقيض تمامًا.. كانت عبلة الرويني هي الابنة الوحيدة المدللة لأسرة مرفهة ثرية تسكن مصر الجديدة.. تلقت تعليمها في مدارس أجنبية وعلى أيدي راهبات فرنسيات.. ووقتما قابلت أمل لأول مرة في أكتوبر 75 كانت قد ذهبت لتجري معه حوارًا لجريدة الأخبار التي تعمل صحفية بها، أي أنها كانت تعيش حياة مستقرة هادئة ليس على المستوى الشخصي فقط، بل على المستوى المهني أيضًا.. على عكس من سيصبح حبيبها فيما بعد.
**
“مقهى ريش”.. كان مكانًا للصعاليك والحرافيش، وبالتالي فهو أيضًا مكان أمل دنقل..
عندما ذهبت عبلة لتقابله أول مرة، لم تستطع –وهي الأرستقراطية النشأة- أن تتأقلم مع جو “ريش”.. كانت تشعر بالارتباك والخجل فور دخولها، فالجميع يوجهون أنظارهم إلى تلك الفتاة التي يبدو عليها رغد العيش.. بذكائه لمس أمل ذلك الارتباك في عيونها، فبادرها بالسؤال:
-هل يضايقك الجلوس في ريش؟
فردت بسرعة: نعم
فأخذها أمل إلى بار فندق كوزمو بوليتان لإجراء الحوار هناك!
“كان أمل هو أول مصدر صحفي يمنحني حوارًا وهو يتناول زجاجة من البيرة” تقول عبلة الرويني.
هذا في أول العلاقة..
تحكي عبلة في “الجنوبي” عن علاقتهما بريش بعدما أصبحا صديقين ثم عاشقين.. فتقول “أقنعني أمل بالتخلي عن منطقي البرجوازي، وتلك الوثنية التي أمارسها تجاه الأماكن، فلا يوجد مكان نحبه وآخر نكرهه، هناك فقط شخص يسعدنا الجلوس معه أو لا يسعدنا، وكانت كلماته منطقية عادلة، فبدا ريش معه أجمل وأرق الأماكن التي تصلح للقاء عاشقين”.
ولكن هل هذا فقط هو سبب اختيار ريش مكانًا للقاء؟
تقول عبلة إنها أدركت فيما بعد أن ريش كان ضرورة لا بد منها، إذ كان يمكن لأمل أن يؤجل دفع الحساب لحين توافر نقود!
هكذا كان عشقًا بطعم الفقر.. وفقرًا بطعم العشق..
ذات يوم نظر أحد حرافيش ريش إلى عبلة، ثم وجه حديثه إلى أمل قائلًا:
– إنها ليست منا!
هنا بكت عبلة وردت منفعلة: أنا منكم
“يومها قرر أمل ألا يحادث هذا الشخص لأنه أغضبني، وقبّلني في رأسي مؤكدًا علنًا: لست مطالبة بالدفاع أمام أحد على الإطلاق.. إنك تنتمين إلى قلبي..”.
“لم تكن تملك إلا طهرها
لم يكن يملك إلا مبدأه”
أمل دنقل
**
كما أن “الغِنى غِنى النفس” كما قال محمد بن عبد الله، فإن الفقر أيضًا بالضرورة فقر النفس، وإن كان أمل هو “أول الفقراء” كما يصف نفسه، فلا شك أنه كان أول الأغنياء روحًا ونفسًا..
عن هذا، قالت عبلة “كان الفقر يضاعف احترامي لهذا الشاعر الذي يمكنه كثيرًا النوم جائعًا بينما يستحيل عليه النوم يومًا متنازلًا أو مساومًا أو مصالحًا، وما أكثر المتنازلين العارضين أنفسهم في أسواق البيع والشراء، ينامون وبطونهم تمتلئ بالتخمة وعقولهم بالمهانة”.
النفس تجزع أن تكون فقيرة *** والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف، فإن أبت *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها
علي بن أبي طالب
**
تفاصيل أكثر إذا عرفتها عنه ستسأل “كيف كان يعيش هكذا وهو الشاعر الكبير؟”
ربما عاش هكذا لأنه حقًا “شاعر كبير”.
كان أمل فقيرًا لدرجة أنه في وقت معين لم يكن يملك إلا بنطلونًا واحدًا ممزقًا أسود اللون..
تقول عبلة “كان هناك ثقب ناتج عن احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة.. وكان أمل يحاول مداراته دائمًا عن عيني البرجوازية، بينما كنت أبحث دائمًا عنه، وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة”.
تؤكد عبلة أن العالم الأرستقراطي الذي قدمت منه يحكم عيونها.. لكنه أبدًا لم يسكن قلبها، وأنها مستعدة إلى أن تبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي يملك بنطلونًا واحدًا ممزقًا!
“تقول كاتبة إنجليزية: لا نريد منك أيها الرجل أن تتأنق لنا وتزهى علينا بجمالك وثروتك ومختلف مزاياك.. وإنما نريد أن تقتحمنا بنظرتك وتسلط علينا شعاع نفسك.. ولا يعنينا بعد ذلك إن كنت قذرًا أو سافلًا أو أصلع!”
من “مذكرات بيرم التونسي في المنفى”
**
“إن تاريخ الأرصفة هو تاريخي الشخصي”.. هكذا كان أمل يتباهى بالطريقة التي اختارها لحياته.. والتي وصفتها عبلة في قولها “كان أمل ينتمي للشوارع، والأزقة، والطرقات.. كان يحمل بؤس الفقراء المطحونين، ويمتلك معهم الكثير من المعاناة والعذابات الطويلة”.
اختار الشاعر أن يعبر عن من لا يجدون من يعبر عنهم، وليعبر عنهم لا بد من أن يعيش وسطهم.. يتجرع بؤسهم، وبتكبد معاناتهم..
لم يكن الشاعر ليستطع تغيير نمط حياته، فيما كانت عبلة على أهبة الاستعداد للاستغناء عما وصفته بـ”الزيف البرجوازي”..
تقول: منذ اللحظة الأولى لمعرفتي بأمل أصبحت أرى عالَمًا واحدًا فقط.. هو عالَم أمل دنقل.
“كن غنيًا في صورة الفقراء *** لا فقيرًا في صورة الأغنياء”
عبد الغني النابلسي
**
يدين أمل بدين أصدقائه.. الفقر
وعندما نتحدث عن أصدقاء أمل، يحضر للذهن اثنان جاءا معه من الصعيد الجواني: الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، والقاص البارع يحيى الطاهر عبد الله الذي تُوفي في سن صغيرة إثر حادث سيارة.
ذات مرة قال أمل لعبلة: إن يحيى الطاهر عبد الله يغضب حين يرى معي علبة سجائر كاملة.. إن علبة السجائر ليست فقط رمز ثراء بيننا، بل هي إشارة إلى ثراء مريب يستدعي غضب قصاص كبير كيحيى”.
“كلنا هنا على نفس الملة
فقرا.. إنما محناش قِلة
كلنا عاشق.. كلنا مِبتلي”
عبد الرحمن الأبنودي
**
بعد مرور أعوام على بداية علاقتهما.. وبعدما تحولت العلاقة لصداقة، والصداقة لحب، كان لا بد من ظهور فكرة الزواج!
أمل الذي يقدس الحرية أصبح عليه أن يفكر في الرباط المقدس.. أمل الذي كان يبادر كل أصدقائه المتزوجين بسؤال “كم فقدت من الحرية بعد زواجك؟” أصبح عليه أن يتزوج!
عندما لاحت الفكرة.. دار هذا الحوار:
- إنني لا أستطيع الزواج بك.. فأنا لا أمتلك شيئًا.
- سنتزوج.
- ستشقين معي.. فأنا لا أملك قوت يومي.
- سأشقى أكثر بدونك.. وأنا أملك قوت غدي.
كيف يمكنني الزواج بك في ظل كل ظروفي الاجتماعية؟ ألم تدركي بعد أني لا أستطيع رؤيتك كل يوم، فقط لأن علاقة الحب بالأساس علاقة اقتصادية لا أقدر عليها؟!
تقول عبلة “كان أمل كثير التهرب من فكرة اللقاء اليومي، وكنت أبكي قسوة القلب الذي لا يمتلك نفس مشاعري، وكان يقبل تفسيراتي وبكائي صامتًا ويؤجل اللقاء به يومين أو ثلاثة”.
- أمل.. أنا أحدثك عن الحب والزواج لا عن المجتمع واقتصاده.
- إنني لا أتكلم عن المجتمع، ولكنه يحضر معي للقائك! إنني أتكلم عن صميم علاقة الحب بك.. أتكلم عن ثمن كوب الشاي الذي لابد أن أدعوك إليه، وعن ثمن علبة سجائري التي لا بد من توافرها معي حتى لا أستعير سجائرك.. إنني أتكلم عن الوصول لموعدك عبر مواصلات عامة خانقة لا بد من توافر ثمن تذاكرها.. أتكلم عن الجوع الذي يحاصرني ليومين، فأنام هاربًا منه، وأستيقظ للقائك. أتكلم عن راتب شهري يمكن أن يعول أسرة لتأكل وتنام على الأقل.. فأنا لا أعمل ولن أعمل، وليس عليك أن تتحملي تبعات خياراتي وعذاباتها.
- أمل.. إننا سنتزوج ليس فقط انتصارًا للحب.. ولكن انتصارًا لاختياراتك..
“- لآدان الديك وأنا صاحية
بحلم ألاقيك في الناحية
- تلاقيني فقير وحكايته
تشبه للزير ونقايته
وهمومي كتير.. ونهايته
مش صاحب مال
- أنا راضية
- على طول النيل مشواري
ولا عندي قلوع ولا صاري
وجمعت غدايا وفطاري
ياما كلت رجوع
- أنا راضية
- قلبي المجروح وأنا باعزق
في حبابي الغيط يتبعزق
وحملت الفاسْ أسترزق
دا أنا شخص قليلْ
- أنا راضية!”
فؤاد حداد
**
في النصف الثاني من السبعينيات، وبعد أن انقضت دولة الواقع على دولة الأحلام، وقضى الانفتاح على الاشتراكية، وتوارت “تحالف قوى الشعب العامل” لتظهر “اللي مش هيغتني في عهدي مش هيغتني تاني”، وانحسرت “والله زمان يا سلاحي” لصالح “73 آخر الحروب”، وتقهقرت “أفدي العروبة دمائي” لتفسح المجال لـ”99%من اللعبة بإيد أمريكا”.. في ذلك الوقت كانت فكرة السفر خارج مصر تلح على عقول وأفئدة قطاع عريض من المصريين.. بعضهم بدافع الفقر والبطالة، والبعض الآخر بدافع الارتقاء في السلم الاجتماعي ومجاراة ظاهرة الاستهلاك، المهم أن فكرة السفر كانت متغيرًا من مئات المتغيرات التي طرأت على نسيج المجتمع في تلك الفترة، وبالتالي كان لزامًا أن تطرأ الفكرة على ذهن الشاعر حينما يفكر في الزواج الذي تفوق تكلفته حجم إمكانيات أمل المادية بالقطع..
وكان طلال سليمان رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية، قد عرض على أمل أن يتولى مسؤولية القسم الثقافي فيها.. وكان عليه أن يتخذ قراره..
الجنوبي الذي لم يفق بعد من صدمة الغربة عن الجنوب، بات عليه أن يتلقى صدمة جديدة، فأمل عاش في القاهرة حياة الاضطراب والقلق وانعدام الأمان، ولم يمنحه بعضًا من السكينة والهدوء النفسي، سوى تلك الفتاة “التي تكسو وجهها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف” -كما كان يصفها- عبلة الرويني.
ولكن ماذا عن موقفها من فكرة السفر؟
لم تكن تتخيل عبلة أن تصبح هي أو يصبح الزواج منها، سببًا في اغتراب أمل مرة أخرى.. لم تستطع أن تتحول من الفتاة التي منحته شيئًا من الطمأنينة ساعده على استكمال رحلته في هذه المدينة، إلى الفتاة التي ترسل به ليعاني الاغتراب والاضطراب مرة أخرى وفي مدينة أخرى..
إن عبلة على استعداد لتحمل قدرًا من الفقر في سبيل استمرار حالة العشق.. فليكن عشقًا بطعم الفقر.. وفقرًا بطعم العشق.
عندما كتب أمل قصيدته “مقابلة خاصة مع ابن نوح”، أهداها لعبلة قائلًا “إنها أول قصيدة أكتبها إليك”!
الغريب أنها ليست قصيدة عاطفية، بل إنها تحمل رؤية اجتماعية وسياسية واضحة، ولكنها تقول في نهايتها:
“يرقد الآن تحت بقايا المدينة
وردة من عطن
بعد أن قال (لا) للسفينة
وأحب الوطن”
أعطته عبلة الأمان من قبل، وجعلته يقول “لا” للسفينة.. فكيف تدفعه الآن ليقول لها “نعم”؟
عدم تحمس أمل وعبلة للسفر جعلها فكرة مؤجلة.. إلى ما لا نهاية..
تقول عبلة “لم نطرح فكرة السفر كثيرًا بعد الزواج، إن جذورنا ممتدة إلى آخر مدى داخل الأرض المصرية”.
يا عاشق الأرض كيف النيل تهجره؟
لا شيء والله غير النيل يغنينــــــــــــا..
أعطاك عمرًا جميلًا عشت تذكــــــــــره
حتي أتي النفط بالدولار يغـرينـــــــــا
عودوا إلي مصر.. غوصوا في شواطئها
فالنيل أولي بنا نـعطيه.. يعطينـــــــــا
فكسرة الخـــبــز بالإخــــــلاص تشبعنـــا
وقطـرة الماء بالإيمــــان تروينــــــــا
عودوا إلي النـيل عودوا كي نطهـــــــــره
إن نقتسم خـبزه بالعدل.. يكـفيــنـــــــا
عودوا إلي مصر صدر الأم يعــرفـنــــــا
مهما هجرناه.. في شوق يلاقينــــا
فاروق جويدة
**
26 يوليو.. قصر النيل.. طلعت حرب.. الأنتكخانة.. الهرم.. مصر الجديدة
تلك كانت “بعض” الشوارع والأحياء التي أقام بها أمل مع عبلة بعد إتمام زواجهما الذي استمر نحو 4 سنوات ونصف السنة، قضيا منها سنة ونصف السنة تقريبًا في المستشفيات ومعهد السرطان، قبل أن ترتفح روح أمل إلى بارئها بعد رحلة طويلة مع المرض الخبيث.
أي أنهما لم يملكا سكنًا خاصًا قط، بل ظلا خلال 3 سنوات يتنقلان -كما تقول عبلة- من شقة مفروشة إلى أخرى، ومن أثاث بالٍ إلى أثاث بالٍ آخر..
كان أمل ينتظر منها أن تثور على هذا الوضع، لكنها –رغم شعورها بالتوتر الخانق- لم تحمل أمل تبعات هذا الانتقال المستمر “بل على العكس، كنت دومًا مؤمنة بأن هذا هو قدر الشاعر العظيم، وهذا هو ثمن كبريائه المفرط”.
لا تسألوني المدح أو وصف الدمى إني نبذت سفاسف الشعراء
باعوا لأجل المال ماء حيائهم مدحًا وبت أصون ماء حيائي
لم يفهموا ما الشعر؛ إلا أنه قد بات واسطة إلى الإثراء
إيليا أبو ماضي
**
ولكن.. ماذا كان يعني “الفقر” بالنسبة لأمل دنقل؟
مبدئيًا كان راتب أمل وقت زواجه لا يتجاوز 30 جنيهًا، من وظيفة اسمية بمنظمة التضامن الأفروأسيوي، بينما كانت عبلة تتقاضى من عملها بالصحافة أقل من 50 جنيهًا، أما إيجار الشقة المفروشة التي كانا يسكنان بها وحده 50 جنيهًا!
لم يكن الفقر يعني لأمل أكثر من “حالة” يمكن أن يعيشها أغنى الأغنياء، “وكنا في أشد لحظات الفقر أكثر غنى من كثيرين” تقول عبلة.
في فترة من الفترات صادق أمل تاجر سيارات، وكثيرًا ما كان هذا الغني يدعوه للعشاء، ربما ليقال عنه في وسط المثقفين والأغنياء “اللي بيعزم أمل دنقل”، ورغم أن أمل كان يقبل الدعوة إلا أنه كان يصر في النهاية على دفع حسابه وعبلة..
ذات مرة سأله الرجل بانفال حار وقد قارب على البكاء:
- لماذا ترفض يا أستاذ أمل.. إن دعوتك شرف لي.
- لن أمنحك هذا الشرف.
يغضب الحاضرون:
- الرجل صادق في دعوته.
- حتى الصدق لا يشتريني..
“فجأة بأحس بعربياتهم.. ممتلكاتهم
مالهاش قيمة
فجأة بأحس بإن نجاحهم.. مهما اتفاخروا
ف آخره هزيمة”
أنطونيوس نبيل
**
جميل جدًا أن تنظر للفقر تلك النظر الفلسفية، لكن لا تنتظر منه أن يبدو لك دائمًا كما تحب أن تراه، فالفقر الذي لو كان رجلًا لقتله الإمام علي بن أبي طالب، له وجه آخر، وإلا فما الحاجة لقتله؟
تؤكد عبلة أنها المرة الأولى التي عرفا فيها “قسوة الفقر”
كان ذلك بعد عقد قرانهما بتسعة أشهر فقط، ظهر ورم صغير في جسد أمل، وبدأ يتزايد يومًا بعد الآخر.. عقب ثلاثة أيام فقط أعلنها الطبيب: إنه السرطان!
“ظللنا صامتين نخشى من ترديد اسم المرض” تصف عبلة لحظة سماع النبأ الخبيث.
بعد امتصاص الصدمة كان عليهما التفكير في الأمر بشكل عملي..
محفظة أمل وشنطة عبلة تخلوان من مليم واحد، وأجر الطبيب “300 جنيه”، بخلاف حجز المستشفى وثمن الدواء وخلافه.. إنهما فجأة أصبحا في حاجة إلى نحو “500 جنيه”..
تعلق عبلة على الموقف، قائلة “المرض هو الحالة الوحيدة على هذه الأرض التي تحول الفقير إلى بائس حين يواجه قدره عاجزًا”.
هنا بدأت رحلة أمل وعبلة مع المرض وقسوة الفقر والحاجة، ولأن الشاعر ليس من مثقفي السلطة وماسحي الجوخ، كانت الدولة عليه أشد قسوة من المرض والفقر معًا!
تجاهلت الدولة شاعرها العظيم، وعندما تذكرته وبإلحاح من بعض المثقفين، صرف ثروت أباظة رئيس اتحاد الكتاب مبلغًا هزيلًا “100 جنيه فقط”، على أن يتقدم أمل بطلب التماس.. وكان الموت أهون عليه مما يدعونه إليه.
وبعدها صدر قرار أكثر هزلية من وزير شؤون مجلس الوزراء بعلاج (المواطن أمل دنقل نزيل معهد الأورام)، وكانت تلك الصيغة أكثر ما أثار استياءه!
في اليوم الأول لذهاب أمل إلى معهد السرطان، تحكي عبلة أنه لم يستطع السير في شارع منزلهما القصير بسبب الألم الذي ظل عامًا ينخر في قدمه اليسري.. توقف أمل وأخذ يستند على أكثر من سيارة واقفة، بينما قالت عبلة في نفسها “تحتشد القاهرة بملايين السيارات الفارهة.. وأكبر شعرائها يخطو بقدم واحدة إلى معهد السرطان!”.
ظل أمل أكثر من 3 سنوات يصارع المرض والفقر والموت وغلاظ القلوب.. جميهم في آن واحد..
لم يكن يملك سوى قوة الإرادة.. وعبلة.
أما هي فيكفيها آخر قصيدة كتبها فيها قبل الوداع:
“تتوالى كل فصول العام على القلب الباكي
لم يسترروح عبر الأشواك سوى رؤياكِ
فعيناكِ الفردوسان: هما الفصل الخامس
عيناكِ هما
آخر نهرٍ يسقيه
آخر بيتٍ يأويه
آخر زادٍ في التيه
آخر عرافٍ يستفتيه
فأريحيه
أريحيه على الحجر البارد
ليرتاح قليلًا
فلقد سار طويلًا
وقفي كملاك الحب الحارس
حتى لا يفجئه الموت
قفي كملاك الحب الحارس”
ومات أمل..
“وجبهته بالموت غير محنية.. كما لم يحنها حية”.
عمرو شوقي
إهداء إلى “الجنوبي الذي أعرف”.. صديقي محمد حسن
اقرأ أيضًا:
اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية
أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)
أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)
ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟
كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟
ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟
استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟
بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟
4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية
صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر