صراع المتكافئين.. الموت والشعر
“فيا ذات العيون الخضر..
دعي عينيك مغمضتين فوق السر..
لأصبح حر!”
أعترف أن هناك من الشعراء من يملك عليك عقلك ووجدانك، بمجرد أن تقرأ له بيتًا شعريًا واحدًا، فتشعر بكلماته تخترقك لتراقص النبضاتَ في قلبك وتداعب الأفكار في دماغك وترسم على شفتيك ابتسامة غامضة لا تعرف لها سببًا إلا أنك تقرأ لأمل دنقل!
ورغم كوني “نزاري” النزعة حينما يتعلق الأمر بالرومانسية، فإأنني لا أملك إلا الإعجاب والدهشة لأرد بهما على أمل دنقل في كل مرة أقرأ فيها عملًا شعريًا يخصه!
كيف لا وهو ثالث ثلاثة أوتاد صعيدية عتيدة رسخت في أرض الشعر الثوري الحر-بالإضافة إلى الأبنودي ويحي الطاهر عبد الله- فلا تجدنّ شاعرًا أعذب منه، ولا أبلغ، حينما يتعلق الأمر بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، ولا تجدنّ أسبق منه في مضمار الوطنية والقومية، حيث آزر مصر في ثورتها ورثاها في نكستها وشاركها سعادة نصرها.
“دُعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن..
أنا الذي لا حولَ لي أو شان..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان..
أدعى إلى الموت.. ولم أدع الى المجالسة!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. تكلمي..”
ومما هو لافتٌ للنظر، أن كتابات أمل كانت دائما ما تختلف من حيث الموضوع والاتجاه عن غيرها من مواضيع شعراء زمنه، فحينما كانت نزعة الميثولوجيا الإغريقية هي السائدة، انفعل أمل مع “التراث” ودخله عالما ومتعلما، رغم وحدة المؤثرات القومية وبواعث التفكير الوطني في هذه الفترة، فالنكسة التي أثرت في شعراء من أمثال بدر شاكر وصلاح عبد الصبور فدفعتهم إلى الرمز الأسطوري والتشبيه اليوناني والروماني للتعبير عن مآسيهم، هي نفسها التي أثرت في أمل، ولمست شغاف قلبه، لكنها دفعته إلى أن ينبش في قبر التراث العربي ويحيي آثار القدماء من عتاولة اللغة ليعبر عنها.
“أيها الواقفونَ على حافةِ المذبحة
أشهِروا الأسلحَة
سقطَ الموتُ وانفرط القلبُ كالمِسبَحَة
والدمُ انسابَ فوق الوشاحِ
فارفعوا الأسلحة واتبعوني
أنا ندمُ الغدِ والبارحَة…”
ومجملَ أعمال أمل، يعبر عن كاتب مُلمٍ، دائم البحث عن متون التراث بمختلف أنواعه في أمهات الكتب فضلًا عن مجرد الرجوع إلى جذور التراث العربي، فنجد أبياته تتبختر في قصيدها بما تحويه من تاريخ إسلامي ومسيحي تارة، وتراث شعبي تارة أخرى، ورمز أسطوري تارة ثالثة!
“المجدُ لِلشيطانِ… معبودُ الرياحْ
منْ قالَ «لا» في وجه من قالوا «نعمْ»
منْ علّمَ الانسانَ تمزيقَ العدمْ
منْ قالَ «لا»… فلم يَمُتْ
وظلَّ روحًا أبدية الألم!”
وقد لا يسع كثيرٌ منا أن يذكر أمل دنقل إلا بأبياته الشعرية الثائرة وقصائده الرمزية المعبرة، لكن كتاباته لم تقتصر على الشعر فقط، فلقد امتزجت نشأته الصعيدة الأصيلة بقراءاته التراثية المتعمقة لينتجا لنا كيانًا متفردًا عبَّر عن نفسه في أكثر من لون أدبي، فها هو ذا يَخرج لنا بدراسة بحثية مطولة عن تاريخ القبائل العربية تحت عنوان “قريش عبر التاريخ”، وأخرى تحمل وسائل جريئة إلى حد كبير في تناول آيات القرآن وأسباب نزولها، فلطالما كان الهدف الأسمى من كتابات أمل هو توظيف التراث في إزالة الغشاوة عن عيون بني أمته من خلال إعطاء شخصياته مظهرًا عصريًا تجعلها قادرة على الحياة في حاضرنا وتعليمنا مما مرت به من التجارب والمآسي التي نمرّ بها الآن!
رحل شاعرنا العظيم في مايو 1983 بعد صراع بينه وبين السرطان اللعين، صراع لم يضعف من شخصية أمل الشعرية بل قوّاها وشحذ نصلها وأخرج منها أبدع ما فيها، ليتركنا أمل مع إرثٍ شعري حاضرٍ ومستشف للمستقبل، لا أحسبنا نجد أبلغ منه للتعبير عما نمر به الآن!
ويأبى علي عقلي إلا أن أتذكر مقولة بليغة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، يصف بها صراع صديقه مع السرطان؛ بأنه “صراع بين متكافئين..الموت والشعر”.
ونحن إذ نرثيه، نرثي طودًا من أطواد الشعر العربي، ولونًا أدبيًا نادرًا، وشعرًا وطنيًا هادرًا افتقدناه بفقدان ذاك “الجنوبي” الأسمر، وإن لم ولن نفتقد شعره والتحامه بواقعنا أبدا.
كريم السباعي
طبيب بشري
اقرأ أيضًا:
اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية
أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)
أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)
ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟
كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟
ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟
استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟
بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟
4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية
صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر