دنقل والتضادات الأربعة
أمل دنقل، أو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، شاب نحت الصعيد ملامحه بعناية وأرسى فيه من الأفكار ما أرسى، ونبذ دنقل من أفكار صعيده ما نبذ، إلى أن حان وقت المدينة في تشكيل وجدانه، فكانت صراعه النفسي وجدله الأكبر في بدايات كتاباته، إلى أن صار أمل دنقل.
تأثر أمل أيضا بالأحداث السياسية تأثرًا كبيرًا، فعاصر الثورة طفلًا، وانتكس معها شابًا، وعاش النصر فالسلام والانفتاح، وكان لكل هذا نصيب عظيم في شعره، حتى أصبحت قصائده أيقونات تردد لوصف تلك المرحلة.
لكنني أجد أن أكثر ما ميّز شعر أمل من خلال منجزه الواسع -القليل نسبيًا- أنه قد استطاع وببراعة نادرة أن يجمع طوال مشواره بين متضادات شعرية أربعة، قلما نجد إحداها عند شاعر كبير، فأولها:
القومية والجدل مع الموروث
إذا جاز التعبير، تستطيع أن تصف أمل بشكل واضح بأنه شاعر قومي، فأمل ينطلق في لغته وصوره وأفكاره من ثقافة عربية أصيلة، ينتمي لقوميته العربية بوضوح وينحاز لها، تشغله ثوابتها كالأرض والثأر وحدة الخطاب، فتجد ذلك كله حاضرًا في شعره:
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
وأيضا في نفس القصيدة:
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
إلا أنه كان شديد الجدل مع هذا الموروث الثقافي، فتجده يفتتح قصيدته ” كلمات سبرتاكوس الأخيرة” بـ:
المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال “لا”.. فلم يمت..
وظلّ روحا أبديّة الألم!
ويعود في “مقابلة خاصة مع ابن نوح” فيقول:
جاءَ طوفان نوحْ
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
الملحمية والتكثيف
التضاد الثاني -والأصعب في رأيي- عند أمل كشاعر، قدرته على الجمع بين الملحمية في قصائد والتكثيف اللحظي في قصائد أخرى، فمثله مثل الأبنودي رفيق دربه الذي كرّس دواوين كاملة مثل “وجوه على الشط” و”أحمد اسماعيل” وفي قصائد منفردة، مثل “لامبو” لفكرة الملحمية.
كانت لدى أمل دواوين مثل “تعليق على ما حدث” و”أقوال جديدة عن حرب باسوس”، وقصائد منفردة مثل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، لكن في نفس الوقت، كان لديه قصائد تهتم بالتكثيف اللحظي للمشهد مثل قصيدة “من أوراق أبي نواس” التي قسمها إلى سبعة أوراق، فكانت الأولى:
“ملِكٌ أم كتابة؟”
صاحَ بي صاحبي.. وهو يُلْقي بدرهمهِ في الهَواءْ
ثم يَلْقُفُهُ..
(خَارَجيْن من الدرسِ كُنّا.. وحبْرُ الطفْولةِ فوقَ الرداءْ
والعصافيرُ تمرقُ عبرَ البيوت..
وتهبطُ فوق النخيلِ البعيدْ!)
“ملِك أم كتابة؟”
صاح بي.. فانتبهتُ.. ورفَّتْ ذُبابة
حولَ عينيْنِ لامِعتيْنِ!
فقلتْ: “الكِتابة”
فتَحَ اليدَ مبتَسِمًا.. كانَ وجهُ المليكِ السَّعيدْ
باسمًا في مهابة!
…
“ملِكٌ أم كتابة؟”
صحتُ فيهِ بدوري..
فرفرفَ في مقلتيهِ الصِّبا والنجابة
وأجابَ: “الملِكْ”
(دون أن يتلعثَمَ.. أو يرتبكْ!)
وفتحتُ يدي..
كانَ نقشُ الكتابة
بارزًا في صَلابة!
دارتِ الأرضُ دورتَها..
حَمَلَتْنا الشَّواديفُ من هدأةِ النهرِ
ألقتْ بنا في جداولِ أرضِ الغرابة
نتفرَّقُ بينَ حقولِ الأسى.. وحقولِ الصبابة
قطرتيْنِ.. التقينا على سُلَّم القَصرِ..
ذاتَ مَساءٍ وحيدْ
كنتُ فيهِ: نديمَ الرشِيد!
بينما صاحبي.. يتولى الحِجابة!
وفي قصيدة “الموت في لوحات”، قسّمها إلى خمس لوحات، يقول في ثانيها:
شقيقتي “رجاء” ماتت وهي دون الثالثة
ماتت وما يزال في دولاب أمي السري
صندلُها الفضي!
صدارُها المشغول، قرطُها، غطاء رأسها الصوفيّ
أرنبها القطنيّ!
وعندما أدخل بهو بيتنا الصامت
فلا أراها تمسك الحائط.. علَّها تقف!
أنسى بأنها ماتت..
أقول: ربما نامت..
أدور في الغرف.
وعندما تسألني أمي بصوتها الخافت
أرى الأسى في وجهها الممتقع الباهت
وأستبين الكارثة
الحدة والحالمية
التضاد الثالث في شعر أمل، قدرته على الجمع بين الحدة والغضب -السوداوي في معظم الأحيان- والحالمية في أحيان أخرى، فتظهر حدته في قصيدة “في انتظار السيف” وغيرها من القصائد فيقول:
تلدين الآن من يحبو..
فلا تسنده الأيدى..
ومن يمشي .. فلا يرفع عينيه إلى الناس..
ومن يخطفه النخّاس :
قد يصبح مملوكا يلوطون به فى القصر..
يلقون به فى ساحة الحرب ..
لقاء النصر..
هذا قدر المهزوم :
لا أرض .. ولا مال .
ولا بيت يردّ الباب فيه ..
دون أن يطرقه جاب ..
وجندي رأى زوجته الحسناء في البيت المقابل)
ولكن تجد حالميته في قصيدة “قلبي والعيون الخضر” حين يقول:
وطفلًا كنت كالأطفال
ومركبة من الكلمات تحملني لعرش الشمس
وقلدني الهوى سيفه:
“إلى ذات العيون الخضر”
وكوكبة من الربات مصطفة
“إلى ذات العيون الخضر”
وقريتنا ـ وراء العين ـ توراة من الصمت
وثرثرة من الغدران
وصوت الطبل
يدق لينزع القمر القديم نقابه المعتل…”.
المباشرة والعمق
التضاد الرابع في شعر أمل دنقل، يظهر في براعته في المزج بين المباشرة وسهولة التناول من ناحية، والعمق من ناحية أخرى، فمع اعتماد قصائده في أغلبها على المباشرة، تجده يعتمد على الإسقاط الكلي للقصيدة في مجملها، ما يعطي عمقا كبيرا لها، وفي ذات القصيدة نفسها، يحتفظ دنقل بعمق خاص يقوم على الدهشة بعد الاسترسال في المباشرة فيقول في “لا تصالح” أشهر قصائده:
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
….
الشاعر أحمد عبد الحي
اقرأ أيضًا:
اكتب صح يطلق مصححا أوتوماتيكيا للغة العربية
أهم 5 كتب لمعرفة الأخطاء اللغوية الشائعة (متاحة للتحميل)
أفضل كتاب لتعليم الإملاء (متاح للتحميل)
ألف الوصل وهمزة القطع.. (6) إنفلونزا أم أنفلونزا؟
كيف ننمي اللغة العربية لدى أطفالنا؟
ما الـ Thesaurus؟ وهل توجد في اللغة العربية؟
استقالة القاضي السحيمي.. لماذا كل هذه الضجة؟
بخطوات بسيطة.. كيف تحوّل العامية إلى فصحى؟
4 مهارات أساسية لإتقان اللغة العربية
صور| نشرة أخبار الأخطاء – الجمعة 27 نوفمبر