خبطة العمر!
(1)
يتّصل بالمحاسب كل خمس دقايق:
– أنزل أقبض؟
– يا عم لسّه والله، لما أبدأ هكلّمك!
يتظاهر بالانهماك في الشغل، فيما عيناه لا تفارقان سماعة الجهاز الذي سيحمل له الخلاص، حتّى تأتيه المكالمة السحرية، بعد نصف ساعة من الترقّب، فيتنهّد، وينزل من فوره.
يطرق الباب ويدخل. المحاسب يبتسم ويقول له:
– اتفضّل يا سيدي، آدي مرتّبك، والسلفة اللي طلبتها كمان، مش عارف إنت هتعمل إيه بالفلوس دي كلها! الله يسهل له يا سيدي، شكلها جوازة جديدة!
لا يردّ، يضع الفلوس في حقيبته، ويمضي.
(2)
يتّصل بصديقه:
– جهّزت لي المبلغ اللي طلبته منك؟
– كلّه تمام، أنا في انتظارك.
يركب تاكسي ويقابله، ويضيف ما حصل عليه منه، إلى الحصيلة النهائية.
(3)
في البيت، يطلب من زوجته أن ترافقه للغرفة الداخلية، بعيدًا عن أعين الأولاد، تتبعه بتوجّس، يخبرها أنه يمرّ بضائقة، ويريد أسورتها الذهبية.
تأخذها الشهامة لأوّل وهلة، فتهتف:
– “أنا ودهبي كلّه تحت أمرك”.
ثم تشعر بقليل من الندم والتوتر، وهي تتحسّس الأسورة لآخر مرة، قبل أن تسلّم أمرها لله، وتمنحها له.
(4)
ينتظر حتى بعد منتصف الليل، ينزل متلصّصًا، يرنّ هاتفه، فيردّ بصوت هامس:
– في الميعاد، ومعايا الفلوس.
يتقابلان في بقعة ميّتة خلف محطّة رمسيس، لا يتحدثان كثيرًا، يتسلّمه منه ملفوفًا في قطعة قماش متهرّئة. يمنحه كل ما معه، ويغادر راضيًا. يذهب إلى منزله وينام هانئا وهو يحتضنه.
(5)
في الصباح، يستحمّ ويتعطّر، ويرتدي ملابس أنيقة، يلتهم إفطارًا أسطوريًا، يقبّل زوجته وأولاده، ثم يذهب إلى مكتبه، ويبدأ مراجعة مواضيع زملائه بابتسامة فارقته خلال السنوات الأخيرة من عمره.
يكتب في ورقة خارجية بعناية، اسم كلّ واحد فيهم، وعدد الأخطاء التي ارتكبها.
بعد أن يأخذ كفايته، يطلب قهوة مضبوطة من البوفيه، فتحضر فورًا، عكس المعتاد، يشعر أن الله يدعمه في خبطة العمر التي يخطط لها.
يتّصل بأحدهم وهو يقول بهدوء:
– يا محمّد، هات عادل ومريم وماجدة وعلاء، وتعالوا اشربوا قهوة معايا في المكتب.
يحضرون متوجّسين، فهم في العادة لا يجرؤون على الحديث معه من تلقاء أنفسهم، يفاجئهم بابتسامته الساحرة، فيسترخون، وتنتقل إليهم عدوى الابتسام، قبل أن يتكلّم في بساطة:
– يا محمّد، إنت ليه كاتب الانتخابات بهمزة قطع؟
– أصل…
– والحرّية من امتى بهاء مش تاء مربوطة يا مريم؟
– عشان…
– طيّب يا عادل يا حبيبي، ليه كاتب حتّى بياء شامية، مش ألف مقصورة؟
– يعني أصل…
– مين قال يا ماجدة إن جمع يخت، يختات ويخايت؟
– كنت بـ…
– وآخر مرة أقول لك يا علاء إن اسمه الالتهاب السحائي مش السحاقي!
– يا ريّس أصل…
– وفيه حاجة اسمها “غرق أثناء تسبّحه يا ماجدة”؟
– أصل…
– وازّاي “قال المتوفّى والمتحدث الرسمي باسم المفصولين” يا محمد، هو إنت محمد ولا سيدنا عيسى اللي بيحيي الموتى؟!
– يا فندم كنت أقصد…
– مش أنا شرحت لكم القواعد دي قبل كده يا ولاد، بدل المرّة خمسين، ووزّعت عليكم ورق، وعملت لكم عرض باور بوينت كمان؟
في نفس واحد:
– حصل يا ريس.
– طيب مش أنا قلت لكم إني هنا في خدمتكم، وأي حاجة تقف عليكم تسألوني؟
بنفس الصوت والحماس:
– أيوه يا ريس.
دون مزيد من تضييع الوقت، يصرخ فجأة:
– أمّال إيه يا ولاد المَرَة؟!
يُخرِج المدفع الرشّاش المزوّد بكاتم الصوت -الذي دفع فيه كل ما يملك!- من قماشته المتهرّئة، ويفتحه في وجوههم بلا تردّد، ويجزّ على أسنانه من المتعة، وهو يرى علامات الذهول على وشوشهم التي تتقلص بالألم، فيما تصدر عنهم حشرجات لطيفة للغاية، والرصاصات تمزّقهم إربا، غير مأسوف عليهم.
مريم وحدها رفعت يدها في آخر لحظة وقالت:
– ينعل أبوك.
فعضّ شفته في غيظ، وهتف مُصححًا، بينما يناولها حفنة أخرى سخيّة من الرصاصات:
– يلعن مش ينعل، حتى وإنتي بتموتي بَقرة!
يسود الصمت المهيب لحظات، بعد أن انتهت الحفلة.
صمت برائحة الانتصار، يشعر بالرضا يجتاحه، وهو يتأمل الجثث الغارقة في دمها، وأمام عينيه يُعرض شريط طويل من أخطائهم القاتلة وإهاناتهم التي لم تتوقف يومًا واحدًا للغة العربية، منذ وطئت أقدامهم الجريدة.
يتناول رشفة أخيرة من فنجانه باستمتاع، يغادر مكتبه متوجّها لغرفة أخرى في المكان، يراجع الأسماء الخمسة الجديدة التي سيشرب معها القهوة بعد قليل.