المنطقة الحرة
صاحب بيت وأكثر!
كنا نقول في الماضي، إذ حضرتنا وفاة أحدهم، ونحن نُمصمص شفاهنا في تصعّب، إن الموت “ضيف ثقيل”.
الآن لم يعد ضيفًا، لكن صاحب بيت، وأكثر!
يدخل أينما يشاء ووقتما يشاء، فينتقي ويفاضل ويفاصل، ولا يخرج مهزومًا أبًدًا، ولا خالي الوفاض، وإنما فائزًا في كل مرة، بأفضل الناس وأكرم الناس، وأبعدهم عن يده، أو هكذا كنا نظنّ!
كنتُ محظوظًا فلم أقع تحت ضِرْسِه كثيرا، حتى تخطّف أبي، على غير انتظار، فـأصبحتُ تعسًا، لا أنفك أتلقّى منه الزيارة تلو الزيارة، كأنه ولّيّ حميم، خصوصًا في اللحظات التي كنت أظن فيها أنني أفلتُّ فيها من براثنه، وأصبحتْ بيننا بلاد!
كأن أبي كان حارس بوابة الموتى، وبرحيله، انهار السدّ الفاصل بيني وبينه، فلم يعد هناك من يحميني منه أو يدافع عني إزاءه!
رحل أبي، وبعده بأشهر قليلة ابنةُ أختي الطفلة ذات الثلاث عشرة سنة، ثم زوج عمتي، ثم عمي، ثم عمتي، ثم عمي الآخر، ثم…
ولفترة طويلة، ظلت الكوابيس تُمسك بتلابيبي، فأصحو قُرب الفجر يوميًا، مرتجفًا باكيًا لاهثًا غارقًا في عرقي، أنادي باسم أبي، وعيناي معلقتان بباب الحجرة، كأن سيسمع ويستجيب، كأن سيمد يده من وراء الموت ويربت رأسي! قبل أن أهبط من على السرير، وأدبدبُ برجلي على الأرض بقوة، لأشعر بشيء صلب أسفل مني، بشغلِي حيزًا من الفراغ، أقرص يدي وأحيانا أعضّها، أشرب زجاجة كاملة من المياه المثلجة على بُق واحد، وأدع الماء يسيل على صدري ويُغرق هدومي، أنا حيّ، أنا موجود، لم يبتلعني العدم بعد، ولم ترفع اللانهائية رايتها فوق قلبي!
يدخل الموت فجأة، فتُحنَى له الجباه، وتغيبُ الأنفاس، ويتفطّر القلب بالأسى، وتنهمر العين بالدموع، ثم إذا وُرِي الجسدُ الترابَ، وانصرف المعزّون يُبسملون ويحوقلون، عادت الحياة سيرتها الأولى، كأن شيئا لم يكن، وعدتُ أُقرفص صاغرًا في جوف السؤال الوجوديّ نفسه: هل أُكمل اللقمة وأنتهي من المقال وأتّصل بحبيبتي وأستمر في دفع اشتراك الجيم، أم أنه لا شيء يهم، لا شيء له معنى أو قيمة، في ظلّ تشابه النهايات، ووضوح آخرة السباق الذي نهرول فيه جميعا دون وعي؟!
لا أكره الموت، أعرف أنه موظف حكومي يؤدّي واجبه بإتقان وبراعة، بلا تحيّزات مسبقة ولا ضغينة شخصية، أكره فقط ما يُحدثه من تغيير: خلخلة الحياة وترحيل الأهداف. الوجوه التي تختفي وتذوب فنجد عسرًا في تذكّر ملامحها مع الوقت. البهجة التي تتحلّل رويدًا فلا يبقى سوى مذاقها الحريف على طرف اللسان، قبل أن يبتلعها العدم للأبد. الأشياء التي لا تعود لطبيعتها أبدًا، لوعة الروح وهي تبحث عن وليفها فتتعثر في عظامه. المساحات الفارغة في القلب التي تبحث عمن يملأها، فلا تجد من يناسبه المقاس، فتظل الريح تصفّر فيها للأبد. الوحدة والوحدة والوحدة!
في المناسبات الصاخبة، أقف في ركن وحدي، أُعطي ظهري للحضور، وأخلُص بوحدتي نَجيًّا، أحدّق في اللاشيء، في البعيد الذي قد يأتي وقد لا يأتي، أقارن بين قمّة الامتلاء، والفراغ المدقع، ذروة الضوضاء، ودَركات الصمت المميت، وأكتشف، لدهشتي، أن الحالات جميعها ليس حقيقية لهذه الدرجة، الخطوط ليست صارمة، والمسميّات لا تعني تماما ما تشير إليه، الأمر جميعه تجليّات للروح التي يمكن أن تجد البهجة في عمق الحزن، والحزن في عمق البهجة. فلا شيء بهذه الجدية حقًا في عمرنا، لا الحياة، ولا الموت!
…
يموتون، ويعبرون الخط الفاصل بين الممكن والمستحيل، يتركوننا خلفهم، نحدّق في آثار أقدامهم، نتذكر نكاتهم وقفشاتهم، ملمَسهم، رائحتهم، جنونهم، حنّيتهم، غباءهم، وغبائنا! نضحك حينا، ونبكي أحيانًا، نتمنى اللحاق بهم في مرة، وفي مرّة نتمنّى عودتهم إلينا، لنشرب الشاي على المقهى معًا، ونقتسم السيجارة، وآخر عشرة جنيهات في جيوبنا، نأكل في طبق واحد ونخطف الطعام من بعضنا بعضا، نجلس متجاورين في ظلام السينمات، نتشاكس، نغنّي بصوت قبيح، نجوب الشوارع وقت هطول المطر ونحن نلتهم الآيس كريم، ثم لا يتحرك أحدُنا من مكانه، لا يأتون ولا نرحل، لا يسمعون ولا نكفّ عن النداء، ويبقى الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرّر اللجوء لعالم الأحلام، علّه يحنّ عليه، ويبرّد قلبه، ويأتي له بمن فارقه ولو لحظات، تعينه على إكمال الطريق، حتى الحلم التالي!