المنطقة الحرة
فقط.. عِش
أشار لي بيده، ونهض من مجلسهم فورًا، عندما رآني أتلفّت حولي، باحثًا عنه، داعبوه وهو يغادرهم، فضحك حتى سعل، ورفع أصبعه في الهواء محذّرا، قبل أن يهلّ عليّ بوجهٍ مضيء وممتلئ نعمة.
أمدّ يدي نحوه، فيخطفني في حضنه، ويعصرني كما الأيام الخوالي، ثم يختار أريكة لازوردية مُريحة، تُحيط بها زهور تشعّ بهجة وتصدح بالموسيقى. يُجلسني ويجلس جواري:
– حسبتُك لن تأتي.
– وهل أقدر؟
– كيف حالك؟
– لعلّك تعرفه أكثر مني!
– مازلتٓ تبحث عن إجابات؟
– كففتُ عن ذلك عندما أدركتُ فداحةَ الأسئلة!
– لا تحاول فهم كل شيء، الذين حاولوا، أضاعوا الحياة والفهم معًا.
– إنها طبيعتي!
– لا يوجد شيء اسمه الطبيعة، الطبيعة قميصٌ نرتديه أمام الناس لنبدو مثلهم فيألفونا، ولا ينفرون منّا، ثم لا نلبث أن نغيّره بتغيّرهم وتغيّر الظروف والبيئات والأحداث، والذي لا يتغيّر ديناصور أو جاهل!
– طمئِني عليك.
– حياتي أسهل من حياتك.
– كيف؟
– أعيش للبهجة والاكتشاف والضحك على أخطاء الماضي وطموحاته وعبثه وصراعاته، وكيف كنتُ أضيّع اللحظات الثمينة في أسئلة أكبر من وجودي ذاته!
– أفتقدُك.
– أنا أيضا أفتقدُك، لكن حتى هذه ليست مشكلة، لأنها مسألة وقت حتى نتجاور.
– مضتْ ٩ سنوات!
– الوقت خرافة أخرى من الخرافات التي يجب أن تتخلّص منها، كل اللحظات موصولة، والمساحات متّصلة، والعوالم مرايا لإحداها الأخرى، لا يوجد ماضٍ وحاضر ومستقبل، وهُمْ وأنتَ، وتاريخٌ يخصّ الآخرين وتاريخٌ يخصّك وحدك!
ارتفع صوتهم يصفّرون ويهلّلون من أجله، فلوّح لهم مُستمهلا، قبل أن ينهض، ويزرعني مرة أخرى في حضنه، ويهمس في أذني:
– عِش، فقط عِش.
دمعتْ عيناي وأنا أتعلّق بذراعه، وأتحسّسه، كأن ذلك سوف يشفع أمام الفراق الوشيك، قبل أن أهمس بصوته نفسه، وملامحه نفسها:
– سأفتقدك.
يبتسم، يهزّ رأسه، يداعب شَعري بأصابعه الكبيرة القوية، ويغمز لي وهو يتحرك ناحية شِلّته بتؤدة. تختفي المعالم من حولي واحدًا وراء الآخر، كأنه يمسحها بخطوته، أو يُطفئ عنها النور، فتغيب، بينما تحلّق فوق رأسه، الهالة التي لم تكن تفارقه، فيبدو ضوءًا فردًا واحدًا ساعيًا لمنبعه، فيما أتضاءل وأصغر وأعود لظلمتي الأبدية.
…
* في الذكرى التاسعة لوفاة مصطفى إبراهيم.