المنطقة الحرة

تحلّوا بالعربية

رؤوف جلال

 دائمًا ما كانت اللغة مصدر إلهام لي بشكل خاص، ولعائلتي بشكل عام، بحكم نشأتي في الصعيد، بدأت العلاقة عندما كنت أشاهد التلفاز وأقترب من بعض القاهريين، ممن كانوا يأتون للعمل أو الزيارة، حيث لاحظت أن هناك اختلافا بيننا يروقني كثيرا البحث عن أسبابه، فحروف مثل “الجيم والقاف والطاء”، تختلف تماما في نطقها، رغم أنهما تكتبان بنفس الرمز، هناك أيضا بعض الألفاظ والمفردات التي تختلف كليا عن الأخرى!

عندما أخذت بعض الصفوف الدراسية لتعلّم القران الكريم وتجويده، كنت محظوظا بعض الشيء، فتعلمت مخارج الحروف والترقيم وضبط الكلمات والجمل إملائيا ونحويا وبلاغيا.

أحد إخوتي كان يمتلك مذكرة، يكتب فيها بعض الكلمات النوبية الجميلة، وأناشيد الجعافرة وأغاني التراث، كنت أقرأها يوميا وأستخدمها كمرجع.

عندما كنت أجد أحد السياح في الرحلات المدرسية إلى الأقصر وأسوان والغردقة، يتكلّم العربية، أبتسم في وجهه تلقائيا وأشعر بالفخر، كنا جميعا نشعر بالسعادة.

إلى أن جاء الكتاب والمنهج الدراسي، وأصبح عليك أن تستذكر دروسك، وإلا لن تفلح، لا داعي للبحث، أكثر من “الملخّصات” والدروس الخصوصية، اللغة الإنجليزية مهمة، فدونها لن تحصل على وظيفة، الحاسب لغة العصر.

بعدها أصبحت اللغة العربية في خبر كان، ليست أكثر من مجرد مادة دراسية، أصبح النحو عقيما والبلاغة مملّة والأدب مكروها والنصوص ساذجة! اللغة العربية برمّتها أصبحت صعبة للغاية، وفي غير المتناول، حتى المعلمين أنفسهم، يجهلونها، وبالتالي أصبحتُ ضعيفا وكسولا في جمع المادة العلمية المتعلقة باللغة!

أبناء عمومتي ممن يعملون بتدريس العربية، ينتظرون خروجي من الامتحان ليروا ماذا فعلت في إعراب ما تحته خط، فكنت أهرب منهم ولا أحب مقابلتهم!

الآن لن تستطيع أن تتكلم الفصحى، ستبدو رجلا كلاسيكيا مثل “رمضان أبو العلمين حمودة”، وسينفض الجميع من حولك، ماذا إن كتبتها في أوراق الصحف؟ لن يفهمك القارئ عندها!

أنت تحتاج إلى الفرانكو أو بعض المصطلحات الأجنبية، كي تظهر في صورة “الواد الروش”، ومصطلحات أفلام السبكي والمهرجانات، لتظهر في صورة “هشام الحرامي”، بعد أن أصبحنا نتقبل قتل أدنى مظاهر العلم والثقافة في حياتنا!

هذا ما فعلوه باللغة. ماذا فعلوا باللهجات المحلية إذن؟

مثلي مثل غيري، سأضطر إلى أن أتحدث بغير لهجتي، كي لا أظهر بصورة “هريدي” أو “خلف الدهشوري خلف”.

حتى أصحاب اللهجات كان لهم نصيب من تشويه اللغة، كل منا تفننّ في ازدراء اللغة بشكل مقيت، فأخرجنا الألفاظ البذيئة والإيحاءات الجنسية!

عندما ننظر للأمر عن كثب، سنرى أن اللغة العربية بخير في بعض الموالد الصوفية ومنشورات السلفيين والإخوان وشعراء البادية، سنرى أيضا أن المدرسة والمنهج ومؤسسات الدولة وبعض المنظمات غير الحكومية والجمعيات، سبب رئيسي في تراجع الاهتمام بالعربية.

أتذكر حينما كنت في تدريب بإحدى الصحف أخبرني صديقي القاهري بأنه عازم على حضور دورة تدريبية في اللغة العربية لسوء مستواه في النحو والصرف، اندهشت بالطبع، فأنا لم أعهد أن أرى تلك الدورات، وإلا ماذا تعلّم في دراسته؟ !

المنهج كان عقيما، وكثيرون لا يعرفون شيئا عن النكرة والمعرفة، الحال والصفة والظرف والاشتغال والنداء والمبتدأ والخبر والجملة الاسمية والفعلية والفاعل والمفعول والاستفهام أن وكان وظن وأخواتهم!

الجميع الآن يمتلك مستويات خرافية في اللغات الأجنبية، ولا يعلم لغته المحلية تمام العلم، ما حدث بلغة القرآن هذا بفعل فاعل، كثيرون من لا يتقنون قراءة القرآن، بسبب علامات الترقيم وقواعد النحو، فهل هذا يجوز؟

في يوم عيدها، سأكتب لها: “كل عام ولغة اهل الجنة بخير”.

تحلّوا بالعربية يرحمكم الله

 رؤوف جلال

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى