عمرو بن كلثوم والحب من طرف واحد
متى تبدأ علاقتنا باللغة؟ حين نسمع لأول مرة؟ أم حين نتحدث لأول مرة؟ أم حين نذهب للمدرسة ونتعلم حروف الهجاء؟ لماذا نفضل لغة عن الأخرى؟ لماذا تشعرنا لغات بالبرد حين نسمعها أو نقرأها بينما تجعلنا لغات أخرى نشعر بالدفء؟
لا أعرف سوى أن اللغة العربية لغتي المفضلة، ربما بحكم كونها لغتي الأم، ربما لإجادتي لها أكثر من غيرها، لكن في الحقيقة ودون أي عصبية، أنا أشفق على من لا يتحدث العربية، فأنا لا أعرف كيف يشعر أحدهم بالحب دون أن يناديه أحدهم بكلمة “حبيبي”، هذا العالم حقًا مليء بالتعساء!
كنت اللغة العربية دائمًا سببًا لسعادتي، كنت الطالبة المفضلة لمعلّمات اللغة العربية بجميع المراحل الدراسية. أتذكر لحظة وقوفي أمام الفصل، لأقرأ ما كتبته في موضوع التعبير أمام زملائي، واندهاش معلمتي من حصيلتي اللغوية بالنسبة لصغر سني. وشعوري أن قدمي ترتفع من على الأرض من السعادة. ليس الأمر فقط شعورًا بالزهو، لكن كان يسحرني شكل الحروف. كنت أتخيل حروف الهجاء شخوصا، كل حرف له شخصية ووظيفة وطباع. فالألف رجل شرطة، والباء فتاة مليحة، والميم سيدة تجيد فنون الطهي، والياء بطل سباق سيارات.
كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي. كمن يتصفّح مجلة بهدف مشاهدة الصور، كنت أقرأ كلامًا كثيرًا لا أفهم معناه، لكني كنت أشاهد الحروف تتجاذب وتتنافر. كانت أمي تمنعني من القراءة حتى لا أصاب بإجهاد العين. فكنت أخبيء كشافًا تحت الأغطية لأرى الحروف في الكتب حتى أنام، حتى أصبت بقصر نظر حاد.
في مراهقتي، كان للغة العربية دور فاعل في اختيار فارس الأحلام. فتى أحلامي لم يكن معلم اللغة العربية، ولا كاتبًا يكبرني بعشرين عامًا، بل كان عمرو بن كلثوم. وبالطبع كان حبًا بلا أمل، ويبدو أنه من طرفي فقط. لا أعرف ما هذا الحظ الذي يجعلني أفتتن بشاعر مات قبل مجيئي للعالم بمئات السنين، فلا أملك ملصقا لصورته أضعه فوق سريري وينتهي الأمر. بل كان عليَ أن أحفظ معلقته عن ظهر قلب، لأثبت للعالم حقيقة حبي له. كنت أراه في أحلامي كل ليلة ينظم لي الشعر، بينما أتحوّل بقدرة قادر لفاتنة عربية تمشي في الصحراء وتبتسم في خيلاء لشاعرها العاشق.
أتذكر حين أخبرت صديقة لي بحبي لعمرو بن كلثوم، ظنّته ابن الست أم كلثوم. وحين أخبرتها أن الست لم تنجب، فافترضت أنه جار لنا وأنا أطلق عليه هذا الاسم لزوم التمويه.
شعرت صديقتي بالأسى حين علمت الحقيقة. ونصحتني أن أعيش سني وأحب من هم على قيد الحياة فقط.
كبرت ونسيت عمرًا وأباه كلثوم ومعلقته وأوهام الرومانسية، ورضيت أن أنزل لأرض الواقع، فلا أحد يكتب معلّقات هذه الأيام ولا يكتب أبياتًا عن الخمر وإلا أُتهم بالفسق والفجور. نسيت فارس الأحلام الأول، لكن ما زالت اللغة العربية تحركني في الحب حتى اليوم فأنا لا أقبل أن أحب أحدًا لا يعرف قاعدة الممنوع من الصرف.
دينا ماهر
كاتبة ومدونة