عدالة السماء
انتقل التعب من ملك -3 سنوات- إلى مصطفى -6 سنوات- كأنّما استراح لطِيب عشرتنا وأريحيتنا، وقرّر ألا يُنهي زيارته بهذه السرعة!
لم أكن بعد قد نسيت نظرة ملك، وهي تحدّق في عينيّ مباشرة، بعد أن قيّدتها لأخذ حقنة منذ بضعة أيام. حتى فوجئتُ في الثالثة صباح أمس، بحاجة مصطفى هو الآخر لحقنة مماثلة!
يا الله، لماذا لم تخلقنا قادرين على التألّم بدلا ممن نحب، أو على الأقل أخذ الحقن بدلا منهم؟!
المهمة كانت أصعب. فمصطفى أكثر نضجًا وأقوى، ولديه “فوبيا” من الحقن من تجربة سابقة. فكيف سنؤدّي هذه المهمة المستحيلة، دون خسائر؟!
لحظات من التردّد والألم النفسي، وأنا أبحث عن نافذة في قصر مُصمت على حافة هاوية، تحوم الوطاويط من فوقه. لم أجد مفرًا من أن أحاوره. لعلّ وعسى. “أنت كبير، أنت رجل، شكّة بسيطة وترتاح بعدها”، لكنه رفض تمامًا تقبّل الفكرة. وبدأ وصلة من البكاء والنشيج الهستيري.
لم أرد إطالة تعذيبه. باغته، وقبضتُ على وسطه بأقصى ما أملك من قوة وضعف! حاولتُ إزاحة رأسه للناحية الأخرى، بينما يستعدّ شركائي في الجريمة للغدر به! قاوم أكثر، وأنشب أظافره في وجهي، فندت عني صرخة مكتومة، ليس لجرحي، ولكن للألم الرهيب الذي لا بدّ أنه يشعر به الآن، كي يقدم على هذه الحركة وهو يحبني!
تكالبنا عليه جميعا، وطعنّاه من الخلف، وقد أصبح بكاؤه سحابة عاتية، كالتي تتصاعد إثر التفجيرات النووية، تنتشر ولا تريد أن تتوقف حتى تقضي على الأخضر واليابس.
مصطفى، رماني بنظرة، ربما لن أنساها أبدًا، وصرخ في وجهي أنه لن يحدّثني مرة أخرى. فربت كتفه، فقط ليزيحها بعيدًا، ويلتفت بوجهه للناحية الأخرى. لقد وضعني اليوم في خانة من يقدرون على إيذائه.
احتضنته أمّه، وأخذته لغرفته كي ينام، دون أن يتبادل معي كلمة واحدة!
لم أستطع النوم، مكملا 24 ساعة تقريبًا بلا إغلاق جفني. بعد ساعة، كان عليّ أن أبدأ رحلة السفر للقاهرة من أجل لقمة العيش. في السيارة سقط رأسي على صدري أخيرًا، لأرى في منامي، أطفالا يبكون، وعيونا جاحظة معلّقة في الهواء، ترميني بسهام على هيئة حقن، وأنا أحاول عبثا تفاديها!
استيقظتُ على هزّة مباغتة، وسائق السيارة يناور عربة نقل ظهرت أمامه فجأة، اصطدمت رأسي بالسقف، لم أعد أستطيع النوم.
في القاهرة، بدأ جسمي يتخلّى عني رويدا، ويرتعش، شعور قارس بالبرد، وكُحة لا تنقطع، ودوار، وصداع، وخط رفيع يتوهّج بشدة على جبهتي، من أثر أصابع رقيقة كانت تحاول عبثا الدفاع عن نفسها.
طبتُ نفسًا بالمرض الذي يوشك أن يحلّ ضيفا عليّ، واستسلمتُ له، وأنا أراني كبير السن وهزيلا، بينما يمسك بي ولدي بعضلاته المفتولة، كي أتلقّى حقنة الطبيب الذي لم ير مفرا لإنقاذي سوى هذه الطريقة الوحشية!