أستاذ العربي.. أرجوك افهمني!
سأقص عليكم حكايتي المأساوية والحزينة، وستكتشفون أنني لست تلك المرأة الهادئة الوديعة، ولا الكاتبة الهاوية التي تنتقي الكلمات.
أنا تلك التلميذة الطفلة المشاغبة، المزعجة، التي تتعمد ترك الواجب المدرسي وتدخل في معارك مع مدرسيها.
لم أعشق اللغة العربية، كنت أكره كتاب العربي، الصورة الذهنية لدي عن مدرس تلك المادة أنه ذلك الشخص الممل الذي سيتحدث كثيرا، وسيقول كلاما يبدو مهما، وسأحاول أن أفهمه، لكنني لن أفهم، وسأبدأ في التثاؤب بينما يكتب هذا المدرس جملا وآيات قرآنية بالطباشير على السبورة الخضراء، وأصاب بالقشعريرة، وسيمسح السبورة ويكتب ما يشبه تعاويذ السحر، وسيشعرني بأنني أمام معجزات يصعب حلها، وسيهيأ لي أنني أغبى التلاميذ وأنني لا أستحق حضور المدرسة ولا الحصص وسأصاب بالخيبة، وسأحسد زملائي الطلبة الذين يجلسون منتبهين، أو هكذا يمثلون -أعتقد الآن أنهم كانوا في مثل حالتي- ولن يكتفي المدرس بالصعوبات التي ألقاها علينا، وسينتهي الأمر بـ”الواجب” الذي سيكون عبارة عن إعراب 30 آية قرآنية، مع 10 أبيات شعر، وسأظل كل يوم أفكر في طريقة لتمضي بها 45 دقيقة، مدة الحصة، وأصاب بالخيبة مرة أخرى عندما يفاجئنا المدرس أن العربي “حصتين ورا بعض” ثم تبدأ حنجرته في إطلاق الصوت والزعيق، والسؤال وحل الأسئلة في الحصة.
كنت أتعمد أن أجلس في الخلف لأختفي عن النظر، لكنه كان يتعمد أيضا أن يوقفني ويسألني، وأصاب بالخجل، لأنني لا أعرف أو باءت محاولاتي بالفشل، وجزائي “التذنيب” على الحائط.
في مرات أخرى كان يضع سؤالا ويطلب الإجابة، ويرفع التلاميذ أصابعهم للمشاركة، وأنا أخاطب نفسي مندهشة “كل هؤلاء يعرفون الإجابة، وأنا لا أعرف”!
في إحدى المرّات، كنت أفكر في العروسة باربي التي اشترتها لي أمي، وأنتظر العودة إلى المنزل لأغيّر لها ملابسها، ففوجئت بالسؤال الذي لم أنسه طوال تلك السنوات.. أعربي الآية “أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم”، تعمدت رفع أصبعي بحماس تلك المرة، الأستاذ لا يختار من يرفع أصبعه، تلك حجة لطيفة للهروب، سأرفع أصبعي وأتظاهر بأنني أعرف الإجابة، لك كان حظي الأسود أن الأستاذ رآني، وقال لي “تفضّلي، أجيبي”! ولكم أن تتخيلوا بقية المشهد.
الأستاذ يعاقبنا دائما، لم يكن يتقبل سؤالي، لم أعد أفهمه، ومضت السنوات، وصلت للمرحلة الثانوية.. نفس الأستاذ الممل مع شعر أبيض ملتصق بصلعته اللامعة، وعصاه الطويلة وكرشه الكبير، لكنني كنت قد تغيّرت، أصبحت أنثى مشاغبة متمردة، وكانت محاولات كتابتي الأولى.
كنت شاردة في ابن الجيران في أثناء الحصة، أكتب بعض الأبيات من قصيدة لنزار قباني أذكرها جيدا.. أريدك/ أعلم أن النجوم أروم/ ودون هوانا تقوم تخوم/ طوال طوال/ كلون المحال/ كرجع المواويل بين الجبال/ لمحني الأستاذ وباغتني وأمسك كراسة مذكراتي من يدي، وشاهد تلك الأبيات، وفوجئت به بأعلى صوته يفضحني بين زملائي ويقول إنني أكتب كلاما غراميا فاشلا.. ولغته ساقطة ومليئة بالأخطاء!!
يومها عرفت أن هذا الأستاذ لم يقرأ ولا يقرأ، وأصابني الشك، فطلبت من والدي أستاذا خصوصيا في المنزل، لأنني أرغب في الفهم. وافق أبي وأحضر لي الأستاذ في عامي الثانوي الأخير، لم أنسه حتى اليوم، هذا الرجل الذي جعلني أعشق اللغة العربية، وأتمنى دراستها، وندمت على ما فات من عمري دونها، ومن شدة حماسي وحبي لحصة النحو والصرف في المنزل، شعرت ببعض اللهفة، كانت الأمور تختلط ببعضها، تخيلت أنني بدأت في قصة حب مع الأستاذ، لم أعد أفهم الارتباط الشرطي بين حضوره وحبي للغة، هل أحببته أم أحببتها؟
رسالتي الأخيرة لكل أستاذ لغة عربية: اللغة أمانة.. وأنت حامل لمسؤولية كبيرة ينبغي إيصالها بحب ورحمة، دون تنفير. لا تنفّروا الأطفال من اللغة.
غادة قدري
صحفية وروائية