كُلّ عامٍ وحَبِيبَتِي بخَيْر
اللغة العربية، ذلك الكيان الذي حيّر الفلاسفة وأعجز المناطقة منذ ظهر.
كانت اللغة العربية بالنسبة إليّ علمًا شديد المنطقيَّة، لا يختلف في شيء عن الهندسة المستوية والجبر والكيمياء، لم يكُن للحفظ مجال في فهمها أبدًا، لهذا تناسبت تمامًا مع ميولي العلمية البحتة.
اللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى، الذي خلق المنطق وكوّن الكون بالعلم، لتكون اللغة التي يخاطب بها الخلق في كتابه الكريم.
إذا تعاملت مع اللغة العربية بهذا المنطق فأعدك أنك ستصبح من أشد المُلهَمين والمُلِمِّين بها، وأنك ستجد فيها متعة وشغفًا ونشوة لن تجدها في الخمر ولا في الشعر ولا في النساء، وإذا تعاملت معها بمنطق أنها مجرد قواعد تُحفَظ، وتُكرَّر على الذهن حتى لا تُنسَى، فلا أعدك بأكثر من النجاح في امتحان الصف الثالث الإعدادي.
هل يكفي لإثبات ذلك أن أذكّرك بأن الله سبحانه وتعالى قال “الحمد لله”، وقال “لله الحمد”، وأنه في كلتيهما لم يعنِ ما في الأخرى؟
هل يكفي لإثبات ذلك أن أخبرك أن الجرجاني رحمه الله قال ما معناه أن عبارة “أخوك هو الفائز” لا تعني أبدًا عبارة “الفائز هو أخوك”؟
ما زال الأمر قلقًا؟ طيّب، سأذكر لك مسألة بسيطة من مسائل اللغة: هل قرأت أو سمعت في القرآن آية “إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون”؟ هل سألت نفسك لماذا قالوا “سلامًا” فردّ عليهم إبراهيم عليه السلام “سلامٌ”؟ دعك من أمور البلاغة الآن ومن أي تفسير، فقط حاول الشعور بحساسية اللغة العربية في هذا الموضع، فلو كان ردّ عليهم “سلامًا” لما شعرنا بأي مشكلة، فهو يردّ عليهم السلام كما ألقوه عليهم.
تقدير العبارة هنا “قالوا نسلّم سلامًا”، وتقدير الردّ “قال سلامٌ عليكم”، فما الحكمة من أن تكون عبارتهم فعليّة وتكون عبارة إبراهيم عليه السلام اسمية؟ هذا يُعيدنا إلى الفرق بين الاسم والفعل، فالفعل معنًى مرتبط بالزمن، والاسم معنًى غير مرتبط بالزمن، أي إن الاسم معنًى منتشر في الزمن كله، ماضيه ومضارعه ومستقبَله، فحين ارتبط سلامُهم بالزمن “نسلّم سلامًا”، جاء ردّ إبراهيم عليه السلام غير مرتبط بالزمن “سلامٌ عليكم”، فلماذا؟ هذا يذكّرنا بقوله تعالى في سورة النساء: “وإذا حُيِّيتم بتحيَّة فحَيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها”، وإبراهيم عليه السلام نبيّ، أبو الأنبياء، فيجب أن يلتزم بالفَضْل، لهذا ردّ عليهم بأحسن مما سلّموا به.
هذا الفرق اللغوي شديد الحساسية هو الطبيعي والمعتاد في اللغة العربية، وهو ما علَّقني بها أشدّ التعلُّق، وهو ما أسر ذهني في الفوارق اللغوية، بين “الحمد لله” و”لله الحمد”، وبين “إياك نعبد” و”نعبدك”، وبين “الفائز هو أخوك” و”أخوك هو الفائز”، وبين “سافر أبي” و”أبي سافر”، وبين آلاف التعبيرات وآلاف تقابلها، كلها تقول إنه ليس في اللغة العربية لفظان بنفس المعنى، وليس فيها عبارتان بنفس المعنى، وليس فيها تعبير واحد لمقامَين، ولا مقامان لتعبيرَين.
الأمر الأخير الذي أحب أن أشير إليه هو أن اللغة العربية ليست تلك اللغة التي يتخيَّلها كثيرون جافَّةً غير متطورة، لأن هؤلاء يرون أن التطوُّر معناه هدم قواعد النحو والصرف، واستقاء اللغة وقواعدها من ألسنة المتكلمين بها في العصر الحديث، ومن ثم “تحديث” قواعدها القديمة بما يتحدث به المتحدثون المُحدَثون.. ولكن هذا لا يزيد على كونه لوثة عقلية أصابت بعضنا، فظنُّوا أنه الصواب.. فاللغة العربية تتطوَّر كل يوم، والتطوُّر فيها له شِقَّان: الأول هو احتفاظها بقواعدها القديمة -ربما الأزليَّة- في الصرف والنحو والصرف، أي كيفية تكوُّن الألفاظ، وكيفية ربط هذه الألفاظ بعضها ببعض لتكوين الجمل، والثاني هو اكتسابها ألفاظًا جديدةً من اللغات الأخرى مسايرةً للواقع ومتابعةً للحداثة، فتجد فيها ألفاظًا من الإنجليزية ومن الفرنسية ومن التركية ومن الفارسية ومن الهندية ومن اللاتينية ومن المصرية القديمة، إلخ، ولكن كل هذه الألفاظ تُصَبّ في الجُمَل بالطريقة العربية، تخضع لقواعد النحو والصرف خضوعًا تامًّا، فتحتفظ اللغة العربية بأصالتها وقواعدها الثابتة كالجذور، وتزدهر ألفاظها وما يدخلها من ألفاظ اللغات الأخرى كالثمار. وكثير من ألفاظ العربية القديمة يسقط من قلة الاستخدام فيندثر ولا يعرفه من يقرؤه في الكتب القديمة، تمامًا كأي كائن حيّ تتجدّد خلاياه وتموت خلاياه القديمة.
هكذا، وبهذا المنطق، تستطيع أن تتعامل مع اللغة العربية، وتتمكَّن العربية من أن تملك عليك لُبَّك وتتخلَّله حتى تصبح جزءًا لا يتجزَّأ من نفسك.
وختامًا، في اليوم العالَمي للغة العربية، أقول لها: كل عامٍ وأنتِ بخير يا حبيبتي.