المنطقة الحرة

في رحاب اللغة العربية

12243334_10206481671573394_7732090284316337251_n

تجمعني باللغة العربية علاقة (أحبك أكرهك) الشهيرة، وتتنوع مشاعري ناحيتها بين الإجلال الشديد واللوم المرير، فقد كنت معروفة في طفولتي بأنني “دودة كتب”، وبينما تنفق زميلاتي مصروفهن على شراء الأساور البلاستيكية الملونة، كنت أصب كل قرش يقع بين يدي بين صفحات الكتب.

بدأت بقصص المكتبة الخضراء، ومررت على روايات مصرية للجيب، واستقر بي المقام فترة طويلة من الوقت بين عوالم يوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محظوظ، لكن على كثرة تنقلي بين السطور والصفحات، وعلى عمق مشاعري ناحية حبكاتها وأبطالها وكتّابها، لم يشكل ذلك تأثيرا يذكر على علاقتي بمادة اللغة العربية التي كانت تحتل مكانا مهيبا في شهادتي الدراسية.

فعلى الرغم من تفوّقي في معظم موادي الدراسية كل عام، كانت “اللغة العربية” تقف، وخاصة “النحو”، عقبة  في طريقي، وإن لم تكن درجاتي فيها بالسوء الذي قد تتخيله، فخسارة درجات حتى وإن كانت قليلة في مجموع درجاتها، قد يشكل ظلا أسود في حياة طفلة متفوّقة تهوي القراءة وتشتهر بين أقرانها بأنها (بتاعة الكتب)!

كبرت بعدها قليلا، وبدأت التعرف إلى فروع أخرى للغة العربية، كاللهجات المحلية المختلفة وأشهرها عاميتنا المصرية، فوقعت في غرامها، خاصة في ظل ما قرأته من شعر بيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم، وغيرهم من شعراء العامية الذين امتلكوا ناصيتها وطوّعوها فأصبحت بالنسبة لي لغة فنية، وليست مجرد لغة للحديث اليومي فقط، ثم بدأت أتساءل لِم لا يسمح لي بالتعبير عن أفكاري ومشاعري والمواضيع التي تشغل بالي على الورق، بنفس اللغة التي أفكر بها داخل عقلي، أي بالعامية؟!

وجاءت الإجابة في شكل عالم المدوّنات، ذلك العالم الذي أصبحت من أفراد بلاطه، وسمح لي للمرة الأولى أن أصيغ ما أريد أن أقوله باللغة (أو اللهجة) التي أفكر بها فورا، دون وسيط، كان هذا الأسلوب به قدر كبير من الحرية، يسمح لي بتدفق مشاعري فوق صفحات المدونة دون قيود اللغة العربية الفصحى وعقباتها.

 وحين نشر محتوى مدونتي في كتاب (عايزة أتجوز)، راق هذا القدر من الحرية للكثير من القراء، لم يرق بالطبع للكثير من الكتاب الذين صرّحوا في أكثر من مناسبة تعليقا على انتشار الكتاب أنهم يقفون قلبا وقالبا ضد استخدام العامية في كتابة النثر، بينما يقبلون به في كتابة الشعر، غير أن أحدهم لم يشرح قط أسباب تلك التفرقة، اتّهمت بتهم جسيمة ككوني وكتابي من معاول هدم الحضارة العربية والإسلامية مثلا، أو أن كتاباتي بالعامية هي مجرد (أدب كلينيكس)، غير أنني -مع احترامي لكل الآراء والاعتراضات- لا أرى التنوع في استخدام اللغة في التعبير شعرا كان أو نثرا، دليلا على انحدار، بل دليل على قوة.

فأنا لا أعتبر العامية -كما يعتبرها بعض الناس- لغة مبتذلة، فبها صيغت قصص قبل النوم، آنست أحلام طفولتنا، وأغنيات رافقت صبانا، وحوارات شكّلت علاقاتنا بأهلنا، وخطب سياسية شكّلت ماضينا، وهتافات عالية صكّت آذان الطغاة، وقدرة اللغة العربية في كل ألوانها على إيصال المشاعر والأفكار والآراء بطريقة فنية مبتكرة، لهو بالفعل عنصر قوة، يجب علينا استغلاله لا استنكاره وإدانته!

في رحاب اللغة العربية بكل ألوانها أحيا، ويحيا كل من يقدّرها ويحبها، فقط علينا أن نتعلم أن نعيش سويا في ظل طرقنا المختلفة لحبّها!

غادة عبد العال

كاتبة وسيناريست

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى