اللغة كالنساء
حلمي أن أكتب كالموسيقى، المثال الأعلى “أنشودة الفرح”، ما الذي كان يدور في ذهن بيتهوفن وقتها لينجز عملا يصلح أن يكون بطاقة تعريف للإنسانية؟ إذا جاءنا زائر من الفضاء لا يعرف عنا شيئًا، وبدلًا من إضاعة مئات الساعات في حكاية موجز تاريخنا له، كافٍ أن نسمعه تلك السيمفونية. ما أتمناه أن أكتب عملًا يمكن تقديمه للزائر الكريم مصاحبًا لتلك المقطوعة.
في الموسيقى شيء ساحر اسمه النغمات، لا تعرف من أين تأتي، كيف لقطع خشبية ميّتة، ومعدنية باردة، أن تنقلك إلى مكانك الحقيقي، بدلا من الواقع الفقير؟!
اللغة أيضًا موسيقى، والمفردات نغمات، غير أن تطويعها ليس بالسهولة نفسها، خاصة إن كنا نتحدث عن اللغة العربية، التي يظن أهلها أنها الأجمل والأشمل في قدرتها على الوصف والتعبير. غير أنهم، وربما لاستراحتهم إلى كونها محفوظة بقوة إلهية، تركوها في مكان قفر، بردائها القديم ذاته، وعادوا كأخوة يوسف يكذبون، ويتحدثون طوال الوقت باسمها.
قلائل من يعرفون مكان الجُب الذي أُلقيت فيه، يزورونها بين الحين والآخر، يسمعون منها ويعودون كالمجاذيب يحكون قصصًا خالية لا يصدقها أحد عن جمالها.
زمان كان مدرس اللغة العربية يشرح لنا الاستعارة والمجاز: البنت كالقمر، أسرح من الدرس عند البنت القبيحة التي تقف من سنوات تحت ضوء القمر تنتظر أن يبدلها ضوءه، ولا شيء يحدث، وأنال أنا أقل الدرجات، ومعها غضب أبي مدرّس اللغة العربية الذي يجد في الاستعارة إجابة: “باب النجار مخلع”، كنت عاجزًا عن إفهامه أنه ليس نجارا وأني لست بابًا، والأمر “المخلع” الوحيد في الأمر اختلاف رؤيتنا، ليست البلاغة، على سبيل المثال، تشبيهات وصورا مغلقة وظيفتها تقريب الصورة لذهن المتلقي، لا، الأمر أبعد من ذلك، البلاغة احتمالات واسعة لا يمكن حصرها أو تعليمها، إلا إن استطعت حصر الحياة نفسها.
لم نكن أنا وهو نتحدث اللغة نفسها، ولم يكن باستطاعتي القول: أنتم ترونها حالًا ونعتًا وخبرًا لمبتدأ، وأنا أراها الوسيط بيننا وبين العالم، هل بإمكاننا، حضرتك، التفاوض حول استبدال وظائف أن مع وظائف كان؟ ما الذي سيحدث إن فكرنا، ليس أقل من اكتشاف إمكانات جديدة للتعبير.
الفارق بين الرؤيتين يصنع القطيعة، لأنه في الأولى تظل ملقاة في الجُبّ يطل عليها كهّانها لطمأنة أنفسهم أنها ما زالت تحتفظ بجمالها القديم المتغنَّى به، أما نحن، وكما يمكنكم التخمين، نتسلل خفية لنعزف معها.
ياسر عبد الحافظ
روائي ونائب رئيس تحرير أخبار الأدب