المنطقة الحرة

الضاد في عالم التضاد

Untitled

 اللغة العربية التي شرفها الله بنزول القرآن بها، وحفظها بذلك، قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر، الآية 9.

في كل محفل من المحافل التي يُحتفى فيها باللغة العربية، نجد المتحدثين يثرثرون بهذه الآيات والكلمات مدعين أن اللغة لن تندثر ولم تتغير، بل ستظل لغة الجاهلية في الأدب هي السائدة في كل عصر وكل وقت، وكأنهم يتحدثون عن واقع غير الذي نعيش فيه!

فاليوم اللغة العربية لم تنعِ حظها بين الناس وإنما تستقبل المعزين فيها وفي أهلها الذين تركوها ولم يهتموا لأمرها، وانصبّ اهتمامهم على تعلّم اللغات الأجنبية، وإرسال أولادهم إلى مدارس أجنبية، أما أنا، فكان وضعي مختلفا.

اللغة والمجتمع

 المجتمع الذي نعيش فيه ونواكب أحداثه وكل مجريات الأمور فيه لم يعد مجتمعا متماسكا مترابطا كما كان، أو كما يزعم البعض، هذا المجتمع لا يحترم صاحب اللغة العربية، ولا يكلله بما هو حامل له، وإنما يكبّله بكل القيود والعوائق التي لا تساعده على الإبداع إطلاقا. لا يحترم مادته ولا يحترمه هو شخصيا، ولا يهتم به كمعلم للأجيال المقبلة، ما أدى بالمعلم إلى كره مادته، وما يدرسه، وأصبح هو الآخر لا يحترم ما يتعلم، ويعدّ سنين عمره التي قضاها في التعليم ضاعت هباء منثورا!

أذكر أنني عندما دخلت قسم اللغة العربية، وفي أثناء حديثي مع شقيقي الأكبر في أحد الموضوعات، اختلفنا في الرأي، فقال لي “إنت أخرك مدرس عربي مالكش لازمة ولا عازة في أي مكان”!

لكني لن أقس على أخي، بينما كنت متقدما لوظيفة من فترة قريبة، ذهبت للمقابلة الشخصية بمقر الشركة، فدار هذا الحوار، وبين الموظفة التي أجرت معي المقابلة، وكانت تتحدث الإنجليزية.

قالت: “عرّف نفسك”. فأجبتها، ثم عاودت السؤال عما أدرس، فأجبتها: “أدرس اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة”، قالت: “عذرا لا بدّ أن تكون متعلما للإنجليزية، كي يكون لك مكان بيننا في هذه الوظيفة”.

ملحوظة: كنت أجيبها بالإنجليزية أيضا!

فاللغة العربية، للأسف، ليس لها نصيب، وليس لأهلها حظ في هذه الوظائف المرموقة، فالمجتمع، والعالم العربي كله، لا يحترم لغته!

اللغة العربية في مراحل التعليم

 كنت من ضمن الذين التحقوا بالكتّاب، فكان المدرسة الأولى التي تعلمت منها العربية، وكان شيخ الكتاب -رحمه الله – معلّما تربويا بمعنى الكلمة، كان يعلمنا كيف نقرأ ونكتب وننطق أصوات العربية نطقا صحيحا لا عوج فيه.

وفي المرحلة الابتدائية لم نك ندرس اللغة العربية، وإنما لُقنّاها شر تلقين، ولم نتعلم منها شيئا إلا أن الكلمة الأولى في الجملة الاسمية “مبتدأ”، والكلمة الثانية “خبر”،  وقِس على ذلك حتى الثانوية العامة!

لم نتعلم من الفصحى شيئا، كيف نتكلم بها، لم نعرف ألفاظها، لم نقرأ نصوصا أدبية بلغة عربية سليمة، وكانت الفصحى لنا لا تخرج عن الأدب المتمثل في القصائد التي ترد إلينا فقط.

هذه المراحل التعليمية كانت عائقا يحول بيني وبين فهم بعض المحاضرات التي يلقيها أساتذة الجامعات، مستخدمين لغة عربية فصيحة، فكنت أدوّن الكلمات التي كانت تقع على سمعي لأول مرة، ولم أك أعرف معناها، ثم أفر إلى المعجم؛ باحثا عن معانيها، كي أعرف ما الذي يقصده هذا الأستاذ أو ما الذي قاله؟

وكانت صدمة كبيرة، عندما فقدت كمّا كبيرا من الدرجات في الامتحان وعلمت وقتها أن السبب الأكبر وراء هذا الفقد، يعود إلى الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية

اللغة العربية في الأوساط الثقافية

عملت فترة كبيرة مدققا لغويا بالصحف والمواقع الإلكترونية، وكنت ألاحظ الأخطاء الشائعة لدى كل كاتب قد صححت له نصا قبل ذلك، وكنت أعرف صاحب النص من نوع الأخطاء الواردة فيه، فمنهم من كان يخطئ في النحو وغيره في قواعد الإملاء والترقيم وهكذا ، لكن يا ليتها كانت تقف عند هذه الأخطاء التي يسهل علينا أن نتعامل معها، بل ونعلّم أصحابها كيفية تجنبها، إنما كانت المصيبة الأعظم هي الصياغة، فلم يك ذلك المترجم أو الكاتب يملك لغة سليمة؛ كي يصوغ بها عنوانا أو جملة تركيبية، إلا كانت أخطاء الصياغة فادحة، فكنت أصحح له الصياغة وأحذف صياغته الركيكة مستبدلا إياها بصياغة لا يمل القارئ منها، فكان لزاما علينا أن نعلّم هؤلاء الكتاب والمترجمين قواعد الترجمة من اللغات وإليها، وقواعد اللغة العربية التي يترجم إليها الكتاب وكيفية صياغة ترجمته؛ كي لا تكون تجارة خاسرة، فيضيع ما ترجمه من خلال مرور القارئ عليه مرور الكرام.

الخلاصة

اللغة العربية راقصة على ألسنتنا، أي ليست جامدة، إنما هي لغة مرنة في تجدد واستمرار، وهي اللغة القادرة على مواكبة كل عصر وكل وقت، لأنها دائما تتجدد باستخدام أهلها لألفاظها، وليست منطقا، أي ليست عمليات حسابية نتائجها واحدة وإنما ذات نتائج متعددة.

واللغة ليست مشرفة بنزول أي نص ديني بها، وإنما تشرف بأهلها الذين يتحدثون بها، محافظين عليها ومجدّدين تراثها، ولكن اليوم عزف عنها أهلها وتركوها، فالعيب في أبنائها وليس العيب فيها.

عبد الفتاح خالد

طالب بقسم اللغة العربية كلية الآداب

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى