لهم شغفهم.. ولي شغفي
عندما كنت في عمر الطفولة، لم يكن شغفي كما شغف أقراني.
فكنت أترك لهم الرياضيات وتعقيداتها، واختبارها لدارسها لمدى حسمه ويقينه، وأنا دوما من كنت أعتقد دون أن أتيقن. كنت أزهد فيما تقدّمه مادة الدراسات الاجتماعية من صمّ لمواقع جغرافية وتواريخ حروب، فأنا دوما كنت ابنة للسلام، بل كنت أختار -بكامل إرادتي- البعد عن صرخات معلمة اللغة العربية العجوز التي كانت في نظري حينها أولى أبجديات معرفتي بمعنى الحاكم الشمولي الديكتاتور.
وكنت أغمض قلبي عن حصة الدين، لأن قلبي يريد أن يعرف الله بخفقانه حين ذكره لا بصم آياته، ولا يريد أن يفترق عن رفيقه المسيحي، لمجردّ أنه يؤمن بثالوث، وأنا أؤمن بالواحد الحي.
فلهم شغفهم ولي شغفي، حيث «ميكروفون الإذاعة المدرسية» الذي في معيّته، عرفت أن اللغة العربية ليست ضما وكسرا وممنوعا ومسموحا، وغيرها من أطر ومنظومات، لم أكن أعبأ بها، لأن إذاعة الصباح علّمتني أن اللغة وسيلة لإعلان «الوجود».. فأنا أطل على جمهوري من زملاء ومعلّمين، كي أقول “أذيع عليكم.. إذن أنا موجودة”.
ففي حضرة الإذاعة المدرسية عرفت أن اللغة فيها شفاء للناس، فهي خلاص من سجن لا خلاص له، إنه سجن العدم والخرس. فلولا اللغة.. وهي العربية في حالتي.. لبقيت أفكارنا مجرد مجردات تذهب أدراج اللاشيء!
فاللغة كالمعمل، تنتقل إليه أفكارنا لتتبلور وتصاغ وتتحرّر وتبعث، حتى تصبح كلمة لها وقعها، وحينها تصبح «موجودا».. ففي البدء كانت كلمة.. وبالتالي فاللغة هي ربة الكلمة.
ممتنة أيتها اللغة التي كنتِ ممرا آمنا بيني وبين جمهوري في مدرستي كل صباح. لقد جعلتني أعلن منذ نعومة أظفاري أنني أرى الله يتجلى فوق الأديان، حينما كنت أصرّ أن أتلو في مقدمة كل إذاعة، آية من القرآن وأخرى من الإنجيل والثالثة من إلهام الهند.. أم العجائب.
وممتنة أيتها اللغة، حين جعلتني أقرأ لمحفوظ والعقاد والحكيم والجاحظ، وأقرأ الأهرام والسياسة الدولية جنبا إلى جنب مع مجلات ميكي وسمير وماجد، وأبعث فيهم الروح، ليكونوا كلمة على مسامع جمهوري المدرسي، الذي كان يصفق لي بعد هذه الباقة، وحينها كنت أعرف أنني “موجودة”.
وممتنة لليلة الإثنين من كل أسبوع، حين كان أبي يجلس معي ليدرّبني على مخارج الحروف والإعراب والإلقاء، أسبوعا لقصيدة للمتنبي والآخر لجاهين. وحين كان يصفق لي جمهوري المدرسي بعد قصيدتي الصباحية، أتذكر أبي وهو يقول لي «انطقي الحروف بأعلى نبرة في قلبك .. هتلاقيها واضحة لكل اللي حواليكي.. طوّالي على قلوبهم».. حينها كنت أعرف أن اللغة هي “وجودي”.
حنان مسلم
مذيعة بإحدى المؤسسات العالمية ومحاضرة ومدربة في مجال صحافة السلام