حكايتي مع اللغة العربية
أنا عربيٌ مسلم، لذلك لا أستطيع التحدث عن مجرد “تجربتي” مع اللغة العربية!
فلقد ولدت وجبلت عليها، فكانت أول كلمة -وأثمن كلمة- سمعتها في حياتي منها هي اسم الجلالة “الله”، حينما تلى والدي الأذان في أذني، ذلك النشيد الترحابي الذي لم يزده كونه بالعربية إلا جمالا ورونقًا!
لم “أجرّب” اللغة العربية فقط، بل عشت وتعاملت بها، ولمست الأثر الذي تتركه على متحدثيها من رقة وجمال وتأدّب، كيف لا وهي لغة القرآن الكريم، فلم ينبغ للقرآن إلا أن يكون باللغة العربية، ولا على اللغة العربية إلا أن تكون لغة القرآن!
اختبرت اللغة العربية -الفصحى منها- أول ما اختبرتها في صغري في آي القرآن التي حفظتها، وفي الأحاديث النبوية التي سمعتها في خطب الجمعة، وفي دروس مادة اللغة العربية خلال مراحلي الدراسية المختلفة، لكنني أبدًا لم أختبر جمال تعبيراتها وإحكام صياغتها وتمام معانيها كما اختبرتها من خلال قراءاتي -غير المدرسية- في الأدب.
فلقد حباني الله منذ صغري بخالٍ لم يضنّ عليّ بمكتبته الشخصية بما فيها من كتب في شتى المواضيع والفروع، الأدبي منها والعلمي، فقرأت من هذا ومن ذاك ورأيت كيف يمكن للغة العربية أن تتدرّج، لتشمل جميع درجات الكتابة والتعبير، فتبدأ من تعبيرات العامة وعلم النفس في كتابات نجيب محفوظ، ثم ترتقي لتشمل لغة العلم في كتابات مصطفى محمود، ثم تزداد ارتقاءً لتشمل لغة الفلسفة في كتابات العقاد وزكي نجيب محمود، لتصل إلى أوج رقيّها وعظمتها بأن تشمل لغة القرآن الكريم وتفسيراته في كتابات محمد متولي الشعراوي وعبد الصابور شاهين.
على أني قد أكون ظلمت اللغة العربية إذا اكتفيت بالثناء عليها وحيدة دون أن أضعها في منافسة مع لغة أخرى كالإنجليزية، وأي لغة أجدر بالمنافسة والتباري من لغة الضاد!
على انتشارها وعالميتها، فإن اللغة الإنجليزية تقف عاجزة أمام العربية إذا تحدثنا من حيث الجذور اللغوية والاشتقاق، فلا أثرى من العربية ولا أغنى، جذرًا ولفظًا واشتقاقًا.
فنجد -على سبيل المثال لا الحصر- أن كلمة “Good” في الإنجليزية لا مشتق لها إلا “goodness” في حين أن كلمة “جيد” في العربية لها من المشتقات الكثير، فجاد يجود جودة وإجادة فهو جيد وهم جيائد.
وأذكر إحصائية للدكتور عبد الصبور شاهين -رحمه الله- ذكر فيها أن العتاولة من أدباء القرن الماضي، كطه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والمازني والزيات وغيرهم بكل ما أوتوا من مقدرة لغوية لم يستخدموا في كل كتاباتهم مجتمعة أكثر من أربعة في المئة فقط من قدرة اللغة الكلية!
كيف لا ونحن نتكلم عن لغة، “الجمل” فيها له أكثر من خمسة آلاف لفظة تصفه وتصف شؤونه!
كيف لا في لغة يقول عنها أبو العلاء المعري “الكلب الذي لا يحفظ للكلب سبعين اسمًا”!
ومن طرائف هذه اللغة، التي لا تنفك عن مفاجأتك يومًا بعد يوم، كتابًا بعد كتاب أن للداهية فيها أكثر من ربعمائة اسم ووصف حتى قيل إن “كثرة أسماء الداهية من الدواهي”!
لذلك من الطبيعي أن أرى أن مكانة اللغة العربية بثرائها ومرونتها مهضوم حقها، إذا ما قورنت بمكانة اللغة الإنجليزية في العالم، وأنها تصلح أن تكون هي لغة العالم الأولى، في سائر المجالات والعلوم، فقط إذا أتيحت لها الفرصة ونالت منا القدر اللازم من الاهتمام والرعاية.
فهل سنرى ذلك يومًا؟
كريم السباعي
طبيب بشري