المنطقة الحرة

«المدقق اللغوي».. الجندي المجهول في بلاط صاحبة الجلالة

10422371_10205236342121627_3939949704690761716_n

في أي مكان وفي كل مكان يكون دائمًا هو الجندي المجهول.. مع أن عملَه ذو أهمية كبرى.. إنه المدقق اللغوي.

إن التدقيق اللغوي هو العنصر الأهم في عملية الطباعة والنشر، على الرغم من أنها المهنة المجهولة التي لا يعرف الكثير عنها شيئًا إلا ما ندُر؛ حيث إن الكثير من الكُتَّاب والصحفيين يتميَّزون، غالبًا، بالتركيز على الأسلوب والمعنى فقط، وقد يهملون في بعض الأحيان المبنى أو الشكل العام للغتهم من حيث سلامة الكلمة إملائيًّا وإعرابيًّا.. والمدقق هو الحافظ الأمين الذي يصل بالكتاب أو المقال إلى برِّ الأمان عن طريق التركيز الشديد في كل كلمة، بل في كل حرف، يقدِّم ويؤخِّر ويرتِّب الكلمات كي يربطها ببعضها البعض، دون إخلال أو نقصان/ ليتم رسم المنظر الجميل للكتاب أو المقال الذي قد يقل جمالُه كثيرًا من دون «قلم» المدقق اللغوي.

فالتدقيق مهم جدًّا لأي كتابة محترمة، فإذا كانت المقالات مليئة بالأخطاء الإملائية فلا يتوقع أن يثق بها أحد. ومع أهمية هذه المهنة، فإنها تبقى في الظل دائمًا.

هنا نضع بين أيدي القُرَّاء الكِرام عدسة مكبِّرة على هذه المهنة التي لا يعرفها الكثيرون.

لا شك أن اللغة العربية أعرق لغات العالم منبتًا، وأكثرها تهذيبًا وكمالًا وتنوعًا ووفرة. ومعلوم أن اللغة هي وسيلة التواصل بين البشر، وهي عنوان كل مجتمع، وأداؤها بشكل صحيح غير مبتذل ولا ركيك دليل على رفعة المجتمع وثقافته المعرفية. وهنا تكمن أهمية المدقق اللغوي، الذي يهتم بإبراز الصورة المثلى للكتاب أو المقال وللكاتب على حد سواء.

يعيش المدقق اللغوي في رحاب مهنته في كل أوقات حياته: في حديثه مع الناس، وعندما يستمع إلى مقدمي نشرات الأخبار، بل عندما يُنصت إلى خطباء الجمعة في المساجد.. الخطأ يؤلمه؛ فقد عوَّدته مهنته على التقاط الخطأ دائمًا؛ لذلك يكون تركيزه في التدقيق غالبًا عليه في أحواله كلها.

كما تنبغي الإشارةُ إلى أن التدقيقَ اللغويَّ، كمهنةٍ، أمرٌ ليس سهلًا ولا هيِّنًا، كما يظن الكثيرون؛ حيث إن المدقق اللغوي ينبغي أن يعتمد في عمله على قواعد النحو والصرف والإملاء والبلاغة والعروض، بالإضافة إلى المعاجم وكتب الفروق اللغوية والأخطاء الشائعة، هذا فضلًا عن إلمامه بشتى المعلومات وسعة معرفته واتساع ثقافته.

بيد أن هناك مشكلة كبيرة تواجه المدقق اللغوي، تتمثل في تعنُّت بعض الكُتَّاب والصحفيين وإصرارهم على استخدام كلمات وتراكيب وأساليب ليست صحيحة، وإنما جرت العادة على استخدامها، ويظن الكاتب أن تصحيحَ مثل هذه الأمور يُعتبر تدخلًا من طرف المدقق في عمله ومحوًا لشخصيته ككاتب، وإني لأعجب من شخص يشتري سيارة جميلة باهظة الثمن عالية التكنولوجيا، ويرفض أن يتدخل شخصٌ ما لتهذيب الطريق لها وإزالة العوائق والمطبات من أمامها، حتى لا يتأثر هيكلُها أو شكلهُا، وتُوَجَّه إليها الأنظار بالعيوب والأصابع باللوم والألسن بالتعقيب والنقد.

إن المدقق اللغوي هو رمانة الميزان في أي صحيفة أو دار نشر؛ حيث يقع عليه العبء الكبير، بل الأكبر، في تنقيح وتصفية وتصحيح وتدقيق ما يُنشر في الجرائد والكتب؛ وذلك لوجود الكثير من الصحافيين والكُتَّاب الذين لا يملكون ناصية اللغة، فتكون الفكرة غير واضحة لاستخدام بعض الألفاظ التي لا تتناسب مع ما يريدونه من معنى، كذلك هناك الأخطاء اللغوية التي لولا وجودُ مدققٍ لغويٍّ لكانت بعض الصحف «لا تُقرأ».. ومع ذلك يوجد بعض الكتاب الذين يُعتبرون «مدارس لغوية» يتعلَّم منها المدقق اللغوي، لكنهم قلة.

إن المدقق في الصحف والكتب مَثلُه كَمَثلِ الملح في الطعام.. لكن مَن نقصده هو ذلك المدقق الذي يفهم أصول اللغة، المحترف، الخبير.. فأي جريدة أو دار نشر تخلو من التدقيق هي جريدة لا طعم لها ولا لون؛ لأن من يفقد المعنى يفقد المبنى.

وقد أصبح التدقيق اللغوي من أهم التخصصات في صحافتنا المعاصرة، خاصة بعد تدهور مستوى التعليم في مدارسنا، خصوصًا تعليم اللغة العربية. لكن ما أود توضيحه هو أن وجود هذا التخصص في وسائل الإعلام لا يُغني عن ضرورة تثقيف جميع العاملين في المجالات الإعلامية لغويًّا.

جدير بالذكر أن المدقق اللغوي هو حلقة الوصل بين الكاتب والقارئ؛ فهو من يقوم بقراءة النص ثم يعدِّله ويراجعه لغويًّا وأسلوبيًّا وإملائيًّا ونحويًّا كي يخرج، بعد الطباعة، إلى النور في صورة خالية من الأخطاء.

يُذكر -من طرائف المدققين اللغويين- أن أحد المدققين كان قد تغاضى عن جملة «إن وُجد له مكان» التي كتبها سكرتير تحرير إحدى أشهر الصحف المصرية على تعزية، مؤشرًا على نشره إن كان له مكانٌ خالٍ بالصفحة، ونزلت التعزية في الجريدة كالتالي: «… نسأل الله أن يجعل مثواه الجنة إن وُجد له مكان».

كان مدقق آخر قد سَهَا عن اسم «سوزي» على صورة لقرينة الرئيس المخلوع في جريدة كانت تصدر عن الحزب الوطني المنحل، ما أدى إلى فصل المدقق والمخرج ورئيسهما المباشر وبضعة أفراد من العاملين بالجريدة.

أخيرًا، أهمس في أُذُنِ كل من يمتهن هذه المهنة أن قدِّرها وأعطِها حقَّها؛ لأنك بأدائك هذه المهنة تُعتبر حاميًا وحارسًا للغةٍ حارت في بلاغتها وعظمتها العقولُ.

محمد عبد الغفار أبو محمود

مدقق لغوي وكاتب

[email protected]

 

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى