المنطقة الحرة

هذا يوم حزين

12380071_10153823797381477_502510533_n

ربما للأمر صلة بحزمة أقلام بوص متعددة المقاسات والأشكال محفوظة بجوار “دواية” الحبر الأحمر بين أشياء أبي الأثيرة.. أو حتى الساعات التي قضيناها معا يعلمني: “النقاط”، توضع بعد رسم الكلمة كاملة، الـ”هـ” له مسار واتجاه.. يبدأ هنا وينتهي هناك.. رسم الحرف مثل صوته.

أو ربما له صلة بأستاذي أيمن، الذي قال لي في درس تحسين الخط: ابدأ من آخر الصفحة، واطلع لفوق، سيب دايما مساحة بيضا حرة قدامك.. ما تأيّدش إيدك بالمرسوم قدامها يا مصطفى.

أو ربما بدأ قبل هذا كله، مع ملاحظتي الودّ الذي يرسم به شيخي “عبد السميع” آيات القرآن على “اللوح” في الكُتّاب.

ببساطة أغرمتُ برسم الكلمة.

الكلمات في كتب “الحواديت” ليست متفرّدة كالبسملات في يوميات أبي، تكاد تتشابه، لكنها مازالت ملونة، وبها بعض رحابة… كانت حرية رسم الحرف تضيق كلما توارت “الحدوتة” لصالح الحكاية، ثم القصة، ثم الفكرة.

أسعدني الحظ، بعد أن كنت واحدا ضمن أبناء الريف المحظوظين بتعليم حكومي بائس فقط، وانقطعت عن الدراسة لعامين.

قضيت الوقت كله في القراءة، كانت الخطوط واحدة تقريبا، لا جمال فيها، الطبعات كانت رخيصة ورديئة، ربما هذه الرداءة في الرسم أفلتت شقاوة السعدني، وبراح أنيس، ورهافة إحسان، وسخرية الحكيم، وحزن إدريس، وتفرد الطاهر، وفلسفة محفوظ، أصبح للكلمة جمال آخر، تجلى في المعنى كما كان في الرسم.

ثم أتى العقاد، أذكر كيف اعتدلتْ جلستي وأنا أقرأه، في جملة واحدة أدركتُ جمالا بكرا، لم يتجلَ في المعنى، ولم تَحملهُ الكلمةُ، كانت الكلمة هي الجمال، كان التركيب بناء باهرا بذاته، اللغة حي يتشكل لحظة القراءة، الصوت ينب حرفا، وكلمة، وجُملا تبني كلاما/أدبا لا يحده شكل، العالم يتسع في الكلمة، والمعنى يتفتح إلى غير نهاية.

حسمت أمري مقدما، في الجامعة سأدرس آداب اللغة العربية، اللغة باهرة لحظة تتشكل، سأعرف العالم في اللغة، بها سأتحسس العلاقات بين مكوّناته، بين تجلياتِ الجمال/الروح اللانهائية فيه، اللغة لا تعبر عن الغضب، ولا الحزن ولا حنين.. هي ذاتها الغضب والحزن والحنين، هي الإيقاع، والنافذة، وعلامة الطرق، والطريق ذاته.

كان تعليما قبيحا -أعتقد أنه الآن أقبح- قليلون جدا من أساتذتي أنقذوا شيئا من شغف، فتحوا النوافذ بعيدا عن عطن الإجباري وسخف السطحي وقبح المكرر.. حسام قاسم أستاذي لعلم الدلالة يبتسم: يا مصطفى حرام الخبر يجي بعد المبتدأ بسطرين.. بس سيبك، النفَس الطويل حلو.

سيد البحراوي يقرأ معي “ورجعتُ بعد الظهرِ في جَيْبي قروشْ/ فشربتُ شايًا في الطريق/ ورتقتُ نعلي/ ولعبتُ بالنرد الموزَّعِ بين كفي والصديق”.

الرخاوي يستوقفني في ممر الجامعة: مابتقراش بلغة تانية ليه.. اللغة زي سماعة الدكتور، هتعرّفك جوف اللي قالها.. هيبقى معاك سماعتين.

درست علم نفس اللغة، وعلم اجتماعها، وعلوم دلالاتها، وإيقاعها… اكتملتْ اللغة كائنا حيا يوخز ويربّت، يعدو ويتمهل، يكشف ويصد… علاقتنا انعقدت مثل صديقين لدودين.

الآن يخاصمني جمالها تمامًا، لا يظهر لي منها إلا الرديُ، مثل أحمق أصيل اخترت –تقريبا- الشغل في رتق اللغة وستر قبح متحدّثيها، الـ”ديسك”، مهنة بائسة وحزينة بما يكفي لتجاهل الحديث عنها هنا.

في يومها، أتذكّر قولا حزينا لصاحبي المسافر: مكانة اللغة وجمالها من مكانة متحدّثيها وجمالهم.. ونحن عرب.

مصطفى رزق

كاتب وصحفي

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى