أسيرة الثمانية وعشرين حرفا
لم أكن أعلم وأنا طفلة صغيرة أقف مشدوهة أمام مكتبة منزلنا، أنني سأقع أسيرة للثمانية وعشرين حرفًا الذين تتشكّل منهم اللغة العربية وتتكون.
آيات الذكر الحكيم التي كان يتلوها والدي أحيانًا، ويستمع إليها أحيانًا أخرى بصوت كبار قرّائنا، من أمثال الشيخ محمد عمران والشيخ مصطفى إسماعيل، جعلتني أتوقف أمام هذه اللغة العملاقة التي أراد المولى عز وجل أن يحدثنا من خلالها.
بدأتُ ألحظ ثراء كلماتها وتفرّد معانيها، وأنا أقرأ لأبي دواوين شعر المتنبي، وأبي نواس، وعمر أبو ريشة، وألمس التنوع والزخم الهائل في التعابير التي تختلف من حال لحال، فقط إن استبدلت كلمة واحدة في شطر من بيت شعر، ليتحول من هجاء إلى غزل أو العكس.
اشتد عودي وأصبح الكتاب صديقي، ولأكون أكثر دقة، أصبحت اللغة العربية رفيقتي المستترة في مئات الكتب التي صاحبتني على مدار حياتي، وما زالت تلك الفاتنة صاحبة الثمانية والعشرين حرفًا، لها نفس قدرتها على إبهاري، وربما بقدر أكبر كلما تأملتها وقارنت بينها – مثلا- وبين اللغة الإنجليزية التي تعد من أكثر لغات العالم تداولاً.
أحمد الله أنني ولدت بلسانٍ وعقلٍ وقلبٍ عربيّ، أتحدث وأفكر وأشعر بالعربية، التنوع في توصيف المعاني والتعبير عنها بدقة كبيرة ثراءٌ لا تملكه إلا العربية. فعلى سبيل المثال لا الحصر الحب في اللغة الانجليزية يُعبر عنه بكلمة واحدة، بينما في لغتي العربية البديعة هناك العديد من الكلمات التي تتيح للمتكلم وصف ما يشعر به تحديدًا، وتدرّج حاله وقلبه، وتحول مشاعر الحب داخله بدقة.
وكما أن للحب أكثر من معنى في العربية، فكل ما يختلج في النفس البشرية له مئات التراكيب والدلالات، ربما هذا ما جعلني أعبّر عن نفسي وأنا أكتب بها أكثر من لغتي المحكية رغم أخطائي الكثيرة في قواعدها التي أحاول جاهدة ألا أخرقها، وعلى الرغم من خروقاتي الصغيرة أحيانًا فإن العربية تسامحني، بل إنها تزيدني من أسرارها سرًا جديدًا، ومعنى لا أجده، إلا في ربوعها.
لا أظن أن صغيرة مثلي تستطيع أن تتكلم عن لغة بقامة العربية، لكن أظنني من أحبائها المخلصين وواحدة من المفتونين بها، وإن كان لها عيدٌ، فمن غير المحب يكتب عن محبوبه!
أميرة سيد مكاوي
كاتبة وروائية