المنطقة الحرة

العربية التي تعلمتها عن أبي

12088111_10154025530030329_6805679423598799346_n

اختيار (الكلمات) المناسبة (للكتابة) عن (اللغة) عملية شاقة جدا، خاصة إذا ما كنتَ عاشقا حقيقيا لتلك اللغة التي تريد (التعبير بها عنها)، وإذا ما كنت ترهن وجودك وحياتك ببضع كلمات تكتبها مؤملا لها الخلود.

 قلت منذ يومين تقريبا في جدال تحوّل لعراك مع أحدهم إن (اللغة بالنسبة لي هي كائن حيٌّ أتنفسه)، وأضحكه هذا كثيرا على ما أظن، ولكنه حقيقي بالفعل.

وقبل الحديث عن (العربية) التي أعشقها، يجب أن أعود بداية إلى منبع عشقي لها، إلى المعلم الأول والوحيد، والذي لولاه لما تذوّقت شيئا من حلاوة تلك اللغة، ولا انتبهت لما في غريبها ومهجورها من بديع رائق، إلى أبي العزيز الصعيديّ الهادئ، رجل الجيش الذي كان يعامل الموجودات كلوردٍ إنجليزي، كما أهديته في ديواني الجديد (وما فعلته عن أمري).

سأحكي عن أبي إذن، فهذا أسهل وأحب للنفس، خاصة أنني لولاه لما أبهرتني العربية بالشكل الذي أبهرتني به، وما استشعرت لذتها ودفأها وحلاوتها ومدى طلاوتها في التعبير والقراءة، وهي اللغة الأجلّ التي اختارها الله سبحانه وتعالى لحفظ كلامه (بلسان عربي مبين)، وهو الذي (ما تنزَّلَت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون)، وهذا ما ستدركه بصورة أوضح كلما نَمَت مداركك اللغوية وكلما ازددت تعمقا في العربية وتذوقا لها.

سأقول بداية إن أمتع أوقات طفولتي كانت حين يعود أبي في المساء ونأكل سويا، ثم يبدأ الحكي عن جزيرة العرب قبل الرسول وبعده، كان أبي يحب الشعر ويكتبه في بداياته، وكان يحفظ كمّا هائلا من الأشعار يمطرني بها كل ليلة، وفي كل المواقف تقريبا كان يجد شيئا صالحا للتعبير عنه ببيت شعري تراثي من العيون، كما كان يحفظ كمّا كبيرا من مُلح ونوادر وأيام العرب والسيرة النبوية بالتأكيد، وكان يقص عليّ كل هذا بنفس اللغة التي قرأه بها مسطورا في الكتب، ثم يبدأ في شرح وتفسير تلك الكلمات الضخمة والغامضة.

ولإشباع شيء من النرجسية، سأذكر أنني كنت كثيرا ما أتفاخر أمامه بسرعة استيعابي وحفظي، وكان رده المتكرر أن الذكاء يقتل صاحبه، ويستشهد بقصة الفتى الذي جاء لأبي العلاء المعري سائلا (ألست أنت القائل “وإني وإن كنت الأخير زمانه .. لآتٍ بما لم يستطعه الأوائلُ”؟ فقد جاء الأوائل بـ28 حرفا، هلا جئت لنا أنت بحرف واحد؟ فانتبه أبو العلاء له وسأله: ما اسمك يا غلام؟ تالله إنك لن تُعمّر طويلا)، وينهي الاستشهاد بأنه طبقا للقصة فقد توفي الغلام بالفعل بعد عام أو عامين.

يدخلني هذا في الحديث عن نشأة اللغات، واعتقادي الشخصي أنها مُنحَت للإنسان منذ بداية خليقته، (وعلم آدم الأسماء كلها)، لأن اللغة ومكوناتها من الحروف هي الشيفرة التي يستطيع بها العقل التعامل مع الموجودات وتحليلها والتفاعل معها، وهذا في رأيي يُلزِم أن تكون اللغة ممنوحة من البداية، وبالتالي فالسؤال السابق من الفتى للمعري لا محلّ له من الإعراب! ولكن لندعنا من هذا الاستدراك ونكمل.

العربية ككل اللغات، منظومة كاملة متكاملة من التراكيب والتصاوير والاستدعاءات والإيحاءات، لكن العربية ربما تختلف عن كل اللغات في تحريك أواخر كلماتها، في الوقت الذي يميل اللسان فيه إلى السكون بالفطرة والسليقة، وهذا ما يحدث في حال قراءة الروايات والقصص القصيرة والاكتفاء بهما دون الرجوع إلى الشعر، وإلى المنبع الأسمى، وهو القرآن الذي يستند على الشعر أيضا، لأنك حينها فقط ستكتشف مدى حلاوة هذه اللغة، ومدى استعدادها الفطري لتكون لغة موسيقيةً موقّعة، أعطاها الله للعرب، ليتقنوا ويبرعوا في نوع معين من الطبول الزاعقة بها -والممتعة للغاية أيضا- في شكل الشعر العمودي التقليدي، ثم جاء ليبهرهم بانسيابيتها وتجانسها ووقعها الفريد غير المتكرر في القرآن الكريم.

كان أبي بارعا في اللغة، كما في أشياء أخرى عديدة غيرها، على رأسها الرياضيات والشطرنج على سبيل المثال! على الرغم من أنه كان رجلا عسكريا بالأساس، لكنه كان ينطق اللغة كالأعراب، وكان هذا هو المهم ليتشرّب السمع الوقع والإيقاع منذ البداية، ويزداد انبهاري وولعي به بعد دراستي لمعنى النحو والصرف والبديع واستكشاف التراكيب اللغوية البهلوانية في بعض الأحيان، التي كان العرب يلجأون لها، ليخرجوا الكلام على هذا النسق الجميل والمعتاد بالنسبة لهم كفطرة.

تعلّمت العربية كفطرة، كلغة تصلني رغم كل عوائق الأمكنة والأزمنة بأناس أحببتهم وتمنيت لو أنني ولدت بينهم، وفي عصور تقديرهم لقيمة ومعنى وجمال وعبقرية (الكلمة)، حفظت القرآن وتشرّبته قبل أن تنمو لديّ الذائقة الكافية لأتذوقه وأعرف إلى أي حد هذا الكلام باهر ومعجز وخارق، وأحمد الله كثيرا على هذا، وكان أبي يغذّي كل هذا بحكاياته التي لا تنتهي عن أيام العرب ومدائحهم وتلاعبهم بالكلمات ليخرج الهجاء في صورة المديح.

أذكر أنني كنت عادة ما أسرع له في بدايات كتابتي للشعر لأعرض عليه أي (قصيدة) بلهاء خرجت بها في هذا الوقت، فيستمع إليَّ بصمت، ثم ترتسم على وجهه نظرةٌ تهكميةٌ ساخرةٌ، وهو يقول (يا شاعر الغبراء حسبُك ما جرى … وكفاك شعرا بائخا مثل الخرا)، ثم يبدأ في تقطيع فروة رأس ما كنت أعرضه عليه من هراء، فأغتاظ أنا جدًا، وأصرّ على أنني سأكتب يوما شيئا أستطيع أن أبهره به.

تمامًا مثلما كان يزداد عِندي وإصراري على أنني سأكسبه يوما في الشطرنج، وعندما جاء هذا اليوم أخيرًا، بعد طول انتظار، وجدته ينظر للرقعة باستغراب وينظر إليّ باستغراب أكبر، ثم يقول مازحا (أنا مش هلعب معاك تاني)، ولكن هذا لم يحدث مع الشعر مطلقا حتى نهاية الفترة التي كنت أعرض عليه فيها ما أكتبه بانتهاء المرحلة الثانوية.

 ولا أعرف حقيقة هل سأستطيع في يوم من الأيام إبهاره بأي شيءٍ أشكله من هذه اللغة كما كنت أتمنى أم لا، لكنني أعرف يقينا أنه السبب الأكبر والأهم لحبّي واهتمامي بها، وأنني سأظل أتمنّى أن ألمح نظرة الرضا والاستمتاع في عينيه وملامحه وهو يقرأ أي شيء لي بهذه اللغة التي عشقها وأورثني عشقها.

محمد قرنة

صحفي وشاعر 

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى