المنطقة الحرة

تمرير الحياة من وريد الموت!

حسام مصطفى ابراهيم

محزنٌ وصادمٌ ولا إنساني، أن تعرف أن أبًا فقيرًا في المحلّة، يعمل حدادًا أمام النار في الصباح، ويقف على رجليه طوال الليل، حارسا لنادي بلدية المحلّة، من أجل توفير لقمة عيش لأسرته، اكتشف فجأة إصابة ابنه البالغ من العمر 13 عاما بالسرطان، ففتش في جيوبه، فلم يجد إلا ثقوب الفقر والعِوز، فانكسر واكتأب، ولم يجد حلا سوى الانتحار!
هكذا، في ظرف 10 أيام من تشخيص إصابة ابنه بالمرض اللعين، ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ووقفت على قلبه قساوة الأيام بحوافرها فدهسته، آيَس من طلب العون من المحيطين به، الذين لا تختلف ظروفهم عن ظروفه، ولم يكن الخطّ بينه وبين ربه مفتوحًا في تلك اللحظة، فلم ير سبيلا سوى ركوب قطار اللي يروح ما يرجعش!
ترك المرضَ وابنه وزوجته وحياته وأحلامه، بعد أن عجز عن رفع عينيه في عيني الطفل الصغير الذي لم يفهم بعد طبيعة الرحلة التي سيكون عليه خوضها، ولم يدرك ميراث الألم الذي سيحمله على ظهره منذ اللحظة.
رحل الأب ليضيف نظرة ذهول لعيني ابنه، وندبة إلى قلبه، وانحناءة إلى ظهره، لن تفارقه ما بقي له من عمر!
والناس الذين لم يمدّوا له يد العون في محنته الطاحنة، لم يقرأوا في عينيه قرار الموت، ولم يفهموا التحولات العميقة التي تجري له، يزايدون اليوم عليه، ليثبتوا خيريتهم في مواجهة شرّه المستطير، وإيمانهم المطلق في مقابل معصيته التي لا تغتفر، فيصفونه بالجبان والخائر والضعيف، ثم يجزمون -وهم يشربون الشيشة ويتناولون الشاي بالنعناع- أنه الآن يُشوى في نار جهنم وبئس المصير!
فيما أراه أنا بطلا.
فالرجل علم أن فقره لن يشفع لابنه في نيل أبسط حقوقه في العلاج، ورحلته لتسوّل الرحمة لن تُسفر في النهاية سوى عن بضعة قروش، لا تثني ولا تغني من جوع، وربما كلمات مواساة وتصعّب تجرح أكثر مما تداوي!
أتخيّله وهو قابع في الظلام، يحدق في اللاشيء، ولا نقطة نور واحدة أمامه، لا ذراع يتشبث بها، ولا مرشد يهديه خلال الطريق، فيبكي، وربما يصرخ، يعاتب ربه، ويسأله لماذا ابتلى ابنه ولم يبتليه هو، ولماذا اختار هذا المرض بالذات، ألا يحبّه، هل يضنّ عليه أن رزقه ابنا. وما الهدف من الحياة أصلا!
تتعاظم الهموم، وتُطبق على صدره، فلا يكاد يتمكّن من أخذ النَفس، ثم تلمع فكرة، من قاع الإحباط وقلّة الحيلة، تصعد ببطء، وتكبر، وتتعاظم، حتى تتراجع إلى جوارها كل الأفكار الأخرى، وتبقى وحدها في الصورة، فيمدّ يده المرتعشة ويلتقطها.
وبالفعل، يُقدم الأب اليائس على فعل كبير ولافت، ليسلّط الضوء على حكايته، ويكون ثمن موته، حياة ابنه، ولحسن الحظ وللأسف في الوقت نفسه، نجحتْ الخطة، إذ ما إن انتشر الخبر، وغطّته وسائل الإعلام، وتناقل الناس القصة بالصعابنيات المعتادة، حتى استيقظت وزارة الصحة المصون من نعاسها، وأعلنت في عنترية تبنّي علاج الطفل اليتيم!
لقد نجح الأب الميّت فيما لم ينجح فيه الأب الحي، ومرّر الحياة لابنه، من وريده، وعبر أنفاسه، ووهبه فرصة ثانية لن يستطيع هو التمتع بها!

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى