المنطقة الحرة

أنا و«شيء من حتى»

Untitled

في صيف عام 2006 وقعت في الحب.

كنت طالبة تقليدية في الثانوية العامة، مغرمة بالقراءة التي هي هواء حياتي وهواها، مولعة بكتابة الشعر، ولي محاولات طفولية لكتابة الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، ورغم ذلك لم تكن اللغة العربية موجودة في حياتي إلا كمادة دراسية تعذّبني، وتفقدني قواعدها درجات كثيرة في الاختبارات.. كنت أقرأ بها وأكتب، لكنني أكرهها من سويداء قلبي.

أنهيت الثانوية العامة، وخرجت من امتحاني الأخير إلى المكتبة مباشرة، واشتريت أحدث إصدارات “روايات مصرية للجيب”، وكان من ضمن الغنيمة رواية صغيرة بعنوان (شيء من حتى) للدكتور أحمد خالد توفيق.

طالعت غلافها الخلفي فشعرت بالسخط، كانت بطلة الرواية تخوض مغامرة خيالية في العصر العباسي، وتلتقي عددًا من علماء اللغة العربية العظام، في مقدمتهم سيبويه، والخليل ابن أحمد الفراهيدي، والأخفش الصغير، وغيرهم. بدا لي أن تلك اللغة عزمت على تكدير حياتي، فها أنا بعدما أنهيت امتحاناتي وعزمت على عدم دراستها مجددًا تظهر لي في الروايات!

قرأت (شيء من حتى) ووقعت في حب اللغة العربية دون سابق إنذار، وانقلبت حياتي رأسًا على عقب، وفتحت عينيّ على آخرهما، محاولة استيعاب الضياء الباهر الذي كان خفيًّا عني، وبدأت أستكشف حروفها وقواعدها وآدابها بانبهار الأكمه إذ يفارق ظلمته الأزلية ويحدّق إلى قرص الشمس.

رأيت آفاقًا من العلم لم تكن لي دراية بوجودها أصلًا، وكالمجنونة جمعت جرائمي اللغوية التي ظننتها شعرًا، وكدّستها في صندوقٍ صغيرٍ ألقيته في غياهب “سحّارة” فراشي، عازمة ألا أعود إلى كتابة الشعر قبل دراسة علم العروض.

وكان القرار الذي غيَّر مسار حياتي مئة وثمانين درجة، أن أدرس اللغة العربية دون توقف، وأن يصير طلب العلم أسلوب حياتي حتى آخر أيامي، تمامًا كما عاش العظيم سيبويه.

بدأت أبحث عن مكان يعلّمني العربية بطريقة شيقة تختلف عن أسلوب المدرسة التقليدي المنفّر، ولحسن الحظ أن ساقية الصاوي كانت تقدم دروسًا مجانية فيها، مرتين أسبوعيًّا، فواظبت عليها، وهناك التقيت الأستاذ محمود عبد الرازق جمعة، الشاعر والكاتب والصحفي الذي له عليّ أعظم فضل قدمه لي أحد على الإطلاق، إذ علّمني وعشرات من زملائي اللغة العربية، ولم يبخل عليّ يومًا بإجاباته وشروحاته، وبمعرفته الموسوعية المذهلة، وعنّفني لتكاسلي وقتما تكاسلت، واستحسن جهدي كلما اجتهدت، وأثنى على تحسّن لغتي، وتطوّر موهبتي ككاتبة خلال سنوات صداقتنا الطويلة، ودأب على إهدائي كل طبعة صدرت من كتابه العظيم (الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية)، الذي صار إنجيلي وقرآني، ومرجعي الأول في كثير من المسائل اللغوية.

وبمجرّد تمكني من أساسيات اللغة، انطلقت لألفت نظر الآخرين لتلك الكنوز الموجودة تحت أيدينا دون أن نبصرها، علّمت البعض، ونصحت البعض الآخر، وعقدت فصولًا لتدريس اللغة العربية مجانًا لأطفال الجيران، وغرست حبها في قلوبٍ غضّة، وغالبًا ما راجعت نصوص زملائي الكُتّاب قبل النشر، أو لفتّ أنظارهم لنقاط ضعفهم، فعلمتهم وتعلمت منهم.

اليوم، بعد عشر سنوات إلا قليلًا من الحياة في ظلّ اللغة العربية، أستطيع أن ألمس الفارق الهائل بين ما كنت عليه في مراهقتي، وما أصبحت عليه الآن.

عشر سنوات من القدرة على فهم واستيعاب القرآن الكريم وتدبّر آياته، وتذوق الشعر قديمه وحديثه، وتمييز الغث من الثمين في الأدب، حتى نضجت لغتي إلى حدٍ كان كافيًا لينال ثقة الأستاذ محمود في تلميذته الصغيرة، فيرشّحها للعمل محررة صحفية “ديسك” بعدّة جهات إعلامية مصرية، فتنفتح لي آفاق أخرى من المعرفة، وأحظى بفرصة لقاء الصديق العزيز، الأستاذ حسام مصطفى إبراهيم، فأتعلّم منه مزيدًا من اللغة، وكثيرًا جدًّا من الصحافة.

لقد كانت اللغة العربية هي الجنّية الساحرة التي منحتني جمالًا جعلني أستحق الوجود على سطح هذا الكوكب، تعلمت ثلاث لغات أجنبية، لكنها بقيت لغتي الأم، والوطن الذي أسكن إليه، وما بذلت جهدًا في لغةٍ أخرى إلا لأثريها بما أقدر على ترجمته من الآداب الأجنبية. وبفضل اجتهادي فيها، نالت روايتي الأولى (أيام برائحة عطرك) جائزة الشارقة للإبداع العربي العام الماضي، ولا أزال أسعى لتطوير نفسي، واكتساب مفردات أكثر، وسلاسة سردٍ أعظم، والأهم.. أن أطهّر قلبي بتلك المتعة التي لا تضاهى أمام كل نصٍ معجزٍ جديد.

لم أتعلّم العروض بعد، ولم أعد إلى الشعر قط، لكني استكشفت عوالم الرواية والقصة القصيرة، فعشقت كل ما تعلمت، وامتننت لكل من علمني حرفًا، وصحح لي خطأ.. شكرًا لكم جميعًا أينما كنتم. شكرًا يا أستاذ محمود، فلولاك لعشت في ظلمةٍ تامة أبد الدهر.

عشر سنوات من لغة الضاد، ولا أزال أُخطئ وأتعلم، لكني سعيدة.. سعيدة.. وأعلم أن الدرب لا يزال طويلًا..  تالله ما أجمله من درب.

آية عبد الرحمن

كاتبة ومترجمة

Comments

التعليقات

أظهر المزيد

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى