خالي محمود
في يوم اللغة العربية لا بدّ أن أعترف أنني من عشاقها، وأحد من أصابهم الوله بها، فتمرست فيها قراءةً وكتابة.
ولعلي أعود للوراء وأسترجع ذكرياتي معها أنا الأخرى.
خالي محمود، ذلك الخال الأزهري غير الشقيق، معلّم اللغة العربية لأبناء الحي بجميع مراحله، مات شابًا صغيرًا، لم يتزوج فلم يترك ولدا ولا بنتا، لكنه ترك تلاميذ كُثر يذكرونه بطيب الذكر والعرفان.
مات قبل أن أولد وعشت بطيب ذكره، في نفس البيت والحي الذي كان يعيش فيه، وكلما قابلت أحدا وعرف أنني قريبته، أجد نظرة عرفان وابتسامة رضا وقبول حسن، وأسمع الجملة الأثيرة “إنتي بنت أخت الشيخ محمود، ياه الله يرحمه، ده له أفضال وجمايل علينا كتير، ده أستاذي وكان بيعلّمني عربي”.
كان خالي يعلّم الأطفال والشباب، وكان نابغًا، يأتي بخالي وخالتي وهم أطفال صغار يجلسهم مع الفتيان والفتيات الكبار ويكتب آية قرآنية ويجعلها مباراة شديدة الوطيس في الإعراب، من يستطيع أن يعرب هذه الآية، أنت أم عبد الحميد وسامية الصغار، فكان الجميع يتبارى في الإعراب والقراءة والإملاء.
سمعت حكاياته وقصصه عن اللغة العربية، واستنتجت مدى عشقه وإتقانه لها، ووجدتني مرتبطة به وباللغة من خلاله، ومن خلال مصحفه الخاص الذي كان في البيت، وكان يكتب على هوامشه ملاحظاته وإعرابه وتفسيره للآيات.
تسرّب إليّ عشق اللغة العربية فتعلمت القراءة والكتابة في سن صغيرة، وأتقنتهما بسرعة، أذكر وأنا في الصف الثاني الابتدائي وفي أول يوم في العام الدراسي، وأول حصة لغة عربية، سلمتنا معلمة الفصل الكتاب وطلبت منا قراءة التمهيد الموجود في أوله، فقرأته ورفعت يدي سعيدة بأنني أول من قرأه، لكني وجدت منها نظرة امتعاض وتكذيب، قبل أن تقول: “لحقتي تقري بطلي عبط، اقري كويس”!
وبدأت أكبر، وتظهر ملامح عشقي للغة العربية، خصوصا الإعراب والنحو وكانت ألطف اللحظات حصة تطبيق العربي والنحو، كنت أعتبرها فوازير وأحاجي ومنتهى سعادتي في أسئلة: استخرج من القطعة، أعرب ما تحته خط، ثنِّ الجملة واجمعها وغيّر ما يلزم، دون أن أفهم سر معاناة الآخرين وشكواهم من صعوبة اللغة العربية، فيما اعتبرتني زميلاتي مجنونة، فكيف أحب هذه اللغة، ناهيك بفهمها!
أذكر يومًا كنت في الصف الأول الثانوي، وتوعدتنا مدرسة اللغة العربية وأعدت امتحانا في منتهى الصعوبة وكانت الدرجة من 60، وامتحنّا، وبالفعل سقط الجميع، وأحرزت الأولى درجتين فقط، واتهمتني الدرسة بالغش لأنني حصلت على 15 من 60 وهي درجة سؤال النحو!
تطوّر عشقي للغة العربية وامتد إلى جميع اللغات، فأحببت هي الأخرى، وأصبحت القراءة والكتابة من أهم هواياتي.
في كل هذه الذكريات وغيرها، كان خالي محمود، عرَّابي ومثلي الأعلى، وكان يظهر من بعيد في نهاية الصورة، فأسأل نفسي: لو كان موجودًا هل كان سيسعد بي؟ وهل كنت سأصبح تلميذته النجيبة؟
خالي محمود أحد حرّاس اللغة العربية وأحد عاشقيها المجهولين، الذي لم يمهله القدر أن يعطي للغة كل ما كان يتمنى
رحمه الله.
إيمان أبو أحمد
اقرأ أيضًا: