«المفعوصة» والجدّ و«أم البيان البِكر»
أتى على الإنسان حينٌ من الدهر، كان امتحان اللغة العربيّة هو البُعبُع الذي يخشى مُجابهته، أما أنا، وبوصفي طالبة متوتِرة لا تملُك من الثبات النفسي والثقة الشيء الكثير، ارتعدَت فرائصي لامتحان الرياضة، وتلبكت أمعائي قُبيل توزيع ورق امتحان اللغة الفرنسيّة، أما قبل امتحان اللُغة العربية، فكانت «كركبة البطن» مُخففة بحس جدي الرقيق، الذي يعتقد أني «نابغة في العربي»، ويُحدِث خِلانه بشأن حُبي للغة وكتاباتي الصغيرة الواعِدة، بيد أنه لم يكُن نابِغا ومُتفرِدا في هذا السياق إلا هو.
في موضوع إنشاء امتحان اللغة العربية للثانوية العامة، كما كان يحلو له أن يناديه بلُغة زمان «التوجيهية» بمدرسة الإبراهيمية التي درس بها جدي إسماعيل عبدالرازق، وأنهك معلميه بمواضيع إنشاء تحتَل مابين دفتيّ كُراس كامل، استهلت «المفعوصة» التي كُنتها قصتها بأبيات شعر محدودة الانتشار، لشاعِر لم يعرِف النشر، ولم تتخطى أبياته جنبات وزارة التربية والتعليم، وحُجرات المُدرسين، وفصول الدراسة، ومنصات الإذاعة المدرسية رُبما، لستُ متأكدة.. استهللت أقول ناسبةً لشاعر «غير معروف».
شرُفت حروف الضاد إذ قالت لأكرم مُرسل
اقرأ وصايا الله بي؛ إني لأحلى ما تُلي
لُغة البلاغة والفصاحة والكتاب المُنزَل
أم البيان البِكر، لم أُسبق، ولم أتحولِ
«مفعوصة» ومتحذلقة وثرثارة، وبي من العبر ما أكاد أُبصره جليًا على بُعد ست أو سبع سنوات من اليوم، إلا أن شيئًا لا يُساوي فخر هذا العجوز البهيّ بمفعوصيّتي، إن صح التعبير، وحديثه الرائق لناظِم السطور، أستاذ اللغة العربية السابق بمدرسة «نوبار الثانوية التجارية»، الأستاذ عبدالمُنعم نور، وزميل جدي وعِشرة عُمره، الذي حفظ عنه الأبيات، وحفظتها أنا عنه بغير أن أرَه، عن حفيدته صاحبة موضوعات الإنشاء التي تستحق الدرجات الكاملة عن استحقاق.
وبالرغم من طول مجادلاتنا أنا والجدّ بعد ذلك عن ماهية «البيان البِكر»، ومدى توفيق ماتوحي به في التعبير عن اللُغة العربية، لدرجة رُبما تكون جعلتنا نُبخِس الصديق الشاعر حقه، إلا أنها لم تكُن سوى فيضٌ من غيض فضيلة «النقد والتذوق» التي نشّأني الجد عليها منذ طراوة الأظافر، واجتهادي في تسلُق سريره العالي ناصع الحواف، لاستراق السمع لما ينبعث من «الووكمان» خاصته، فتتخلل وجداني قصيدة الأطلال أول ماتتخلل قبل أن أُتِم أعوامي العشرة فلا أفهم شيئًا، ليشرع هو في مُصاحباتي في أول تمرينات تذوُق الجمال في حياتي، ليبسِط لي تعبيرات صورة العصية على فهم تلميذة الإبتدائي«ومشينا في طريق مُقمر، تثِب الفرحةُ فيه قبلنا.. وضحكنا ضحك طفلين معًا، وعدونا فسبقنا ظلنا»، ويختبر خيالي بأن يُحرضني على تمثُل صورة «فعدونا فسبقنا ظلنا»، فلا أخذله طفلةً، بفيض من جيناته الوراثية الراسخة في دفتر وراثتي.
تُشفِق جدتي من مُحادثاتنا المُطوَلة مُعللةً «حرام عليك يا راجِل, مش قدك دي!»، لا آبه لها، يُسعِدني هذا القُرب المُمتع، والبساط الوثير الذي بسطه لي الجدّ في رحاب اللُغة الملكيّة، لتُضفي إلى وجودي شديد الاعتياديّة بُعدًا مُتفرِدًا، ألقي الشِعر العربيّ في الإذاعة المدرسيّة، حتى ولو بدوت برُمتي أنا وجدي من عالم آخر مازال يُجِل المدعوة «اللُغة العربية» وماتحمِله خلف ظهرها من تُراث جاهليّ «معقرب» يجعلها مُهابة الجناب، وأصدَح وهو في قعر رأسي ووجداني يشجعني أنني لست وحدي بقصائد شعرية في مسابقة «التحدُث بالفصحى»، وأنظم الشعر من «حلاوة روح» لا قريحة شعرية، هو عُنصرها المُشِع.. أذكُر أننا في مرحلة الثانويّة انتقدنا «شاعر النيل» بجلالة قدره في بيته المشهور «أنا البحرُ في أحشائه الدُر كامِن.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟»، لنستنكر «الأحشاء» المُقحمة في معرِض الحديث عن جمال اللُغة، والتي كان ليُغنيه استبدالها بـ«الأعماق»، عن ذِكر لفظ «مُمِج»، أو مثير للقشعريرة.
بالطبع لا أُنكِر على أساتذتي بالمدرسة ريّ رافِد مُهم في محبتي للغة الجميلة، التي أعتقِد أنما عرّفتني أشياء عن نفسي، في حصة «الاستماع والتحدُث» في فصل «ميس عايدة» بالصف الأول الإبتدائي، والتي أرهفت سمعها في حصة أسبوعية لأطروحتنا مُتناهية الصغر باللُغة العربية، ومُباريات الإعراب في فصل أستاذي المُلهم «مستر أحمد حمدي» الشاعِر، والفصل الأنضج في رِحاب الأستاذ العبقري «مستر عبدالجليل» بالمرحلة الثانوية، والذي كان من حُسن طالِعنا أن تقبَّل الله دعوة أستاذه «يارب عبدالجليل تقف وقفتي وتبقى مُدرِس» من شغبه، ليقِف وَقفَته ويهدينا نحن، طالبات فصله، لطريق المنطق واللُغة وأبجديات الفِكر الفصيح.
أستطيع اليوم أن أُدرك ما أشفقت جدتي منه يوم نددت مازحةً بأحاديثنا الثنائية غير المتكافئة بين بنت العاشِرة، وعجوز الثمانين.. كان دومًا يُناغِشني بعقوده الثمانية التي تجعل أعوام وصلَنا محدودة مهما طالت «إن الثمانين وقد بُلغتُها .. قد أحوجت سمعي إلى تُرجمان».. اليوم أذكُر ما كان يقول لي، أذكُره وأنا أهاب أن أُقبِل على مقام اللُغة بغير رفيق، على صورة شعرية رقيقة، أو معنى مسبوك ببراعة، بغير صُحبته هذه المرّة، أن أنشأ أغوص في رِحاب «قصائد السِت» دون إرشاد حارِسها الذي جذبني من يدي الصغيرة إليها، وانجذبت من ساعتها، إلى بحور التذوق واستطعام مواطِن بهاءها، إلى مُحيط شاسع رصين الزُرقة، يستعصي أن تجِد رفيق إلى هناك…
مي هشام
اقرأ ايضًا: