فنانة تشكيلية هائمة تكتب عن اللغة العربية
ربّما لأني أوخذ بالجمال سريعا.. أُخذت منذ صغري بهذه اللغة..
وربّما لأني أُفضّل الغياب في العوالم المجهولة التي تغزلها خيالاتي لتفصلني عن كل واقع مرير.. كنت وما زلت أفضّل الاختباء وسط غياهب اللغة العربية!
وربّما يكون هو حبّي للتحدي.. أو الدفء.. أو الحكايات.. أو للتراث.. أو للأحاجي والألاعيب.. أو للمتضادات.. أو أن حبي للحبّ ذاته هو ما جعل فؤادي يهفو لها دائما.
حتى نهاية المرحلة الإعدادية كنت أرتاد مدرسة (مخيفة).. لم تُنشأ هذه البناية كصرح تعليمي منذ البداية.. وكانت هناك الكثير من الأساطير والشائعات التي يرويها التلاميذ عن كل ركن وكل جدار فيها.. هناك من يقولون إنها كانت قصرًا لرجل فاحش الثراء.. مَقيت.. بخيل.. وحينما مات لم يكن له من حبيب ولا وريث، فحازت الدولة البناية.. وحوّلتها إلى مدرسة.. وهناك من زعم أنها كانت كنيسة مهجورة.. وهناك من زعم أن البناية كانت لأسرة إنجليزية قُتلت بطريقة غامضة في أول يوم لهم في السُكنى!
لم أكن لأعلم حينها أبدا حقيقة أصل هذه البناية.. كل ما كنت موقنة منه، أني دائمة الخوف والوحدة داخل هذا المكان الذي كان يشعّ بالبرودة والخواء الدائمين.. حتى ملامح الفتيات بالفصل كنت أشعر فيها بشيء من الخوف يمنعني من مصادقة أي منهن.
الشيء الوحيد الذي كان يشعرني بالدفء في هذا المكان، حصة اللغة العربية، التي تعقبها عادة حصة التربية الدينية، لأن كلتا المادتين تدرّسهما المعلمة نفسها.
ربما لم أعد أتذكر اسم المعلمة.. ولكنني أذكر شكلها جيدا، كأنني رأيتها منذ الأمس فقط.. كانت امرأة بيضاء.. طويلة القامة.. ضخمة الجثة.. ترتدي غطاء رأس غير مرتب، نازح للخلف دائما.. كإشارة غياب عن نفسها من شدة انهماكها في العمل.
كانت هذه المعلمة معروفة بصعوبة المراس.. شديدة التدقيق على الحضور وعمل الفروض وتسميع المحفوظات.. وكنت أنا معتادة على أخذ فترة قيلولتي في أثناء شرحها للنحو.. ومعتادة على التملّص من فقرة تسميع المحفوظات.. كنت أشعر أن الله يحابيني حينما كنت أُفلت من بين يديها في هذه الأوقات الثقيلة على روحي دائما وأبدًا!
ولكن حينما يتعلّق الأمر بحصة النصوص أو الأدب أو البلاغة أو استخراج الجماليات أو سير الشعراء والأدباء، كنت أجد طريقي إلى المقعد الأول المواجه للمعلمة.. كمن يتطلع للقطفة الأولى.. والاستحواذ على كل ما قد تفيض به قبل أن يتسرّب إلى مسامع بقية التلاميذ.
لم يختلف الأمر كثيرا عندما انتقلت إلى المرحلة الثانوية.. إلى مدرسة حقيقية معلومة الأصل ومحددة الأبعاد.. وإلى معلم آخر بطباع أخرى.. أكثر عطفا.. أقل تدقيقا.. كما كان أكثر أناقة..
غير أنه لم يختلف كثيرا في مدى حبه وتفانيه لما يُدرّسه لنا.. لم يختلف كثيرا في كونه واقعًا تحت وطأة اللغة.. مسحور بجمالها.. فخور بما يؤديه في عمله.. سواء بتلقيننا العلم.. أو حبّه للغة.
في النهاية كانت حصة اللغة العربية مصدر شغف لي، منذ نعومة أظافري وخصوبة عقلي.. كل ما كان يؤرّقني فيها: القواعد.. القواعد والقوانين والمحفوظات كانت وما زالت تشعرني بالغضب أينما حلّ، ما جعلني أجد نفسي في نهاية الأمر أتحوّل إلى فنانة تشكيلية هائمة.. لست مُحددة في أي شيء.. غير أن قلبي لا يزال عالقا في غياهب وديان اللغة العربية.
اقرأ ايضًا: